في البداية؛ وقبل كل شيء: نعم إن مسلسل “جعفر العمدة” (كتابة وإخراج محمد سامي) مسلسلٌ ناجحٌ وللغاية. قد لا يعجب ذلك طبقة من يدعون أنفسهم “مثقفين”، أو “عارفين” أو حتى “نقّاد”. صحيحٌ أن المسلسل مليءٌ بالأخطاء، الكليشيهات (توصيف يعطي للمتكرر والمعروف والمعاد مأخوذ من الكلمة الفرنسية cliché)، كما إنه “يؤرّخ” و”يمجّد” لفلسفة خاصة يجري عليها محمد رمضان منذ بدايات صعوده مع مسلسله الأسطورة (2016، كتابة محمد عبد المعطي وإخراج محمد سامي).
ليس في الأمر “سحرٌ” أو “شعوذة”؛ كل ما في الأمر أنَّ الممثل الموهوب -بغض النظر عن سلوكاته الشخصية القائمة على الاستعراض- عرف من أين “تؤكل الكتف” وأين عليه “التصويب” بعد عدّة سقطات خلال الأعوام الفائتة مع مسلسلات لم تعرف الوصول إلى قلب الجمهور مثل “ملحمة موسى، المشوار، وزلزال”.
إذا وللإجابة على السؤال البديهي: “لماذا؟”، دعونا نشرح الفكرة أكثر، دعونا نحاول أن نفهم لماذا وصل المسلسل هذا إلى الناس بهذه الطريقة. طبعاً لن أدعي “كشامي” أنني أفهم المجتمع المصري مئة بالمئة، (وشامي نسبة لأن معظم أهلنا في مصر يروننا نحنُ سكان بلاد الشام واحداً؛ أو “شواماً” كما يحبون وسمنا، وذلك فخرٌ بالتأكيد؛ وهم يحبوننا بشكلٍ كبير وذلك بينٌ واضح)، لكنني في النهاية أنتمي لذات المجتمع العربي، هذا أولاً، ثانياً علاقتي وحبي لمصر والمصريين القديمة للغاية، وثالثها أن ما سأتحدّث عنه هو عامٌ شامل. الفكرة أنّ محمد رمضان قرأ بذكائه وفهلوته و”غريزة الممثل” (actor’s instinct) لديه، ما يحتاجه لكي يبقى في “الواجهة”. غريزة الممثل هذه، هي ذاتها التي يعتبرها أحد آباء المسرح/التمثيل المنهجي(method acting) الروسي قسطنطين ستانسلافسكي “أم المهارات” كما يشرح في كتابه “الممثل يتحضّر”(An Actor Prepares). يحب الممثل الأسمر القادم من مدينة “قنا” (وتلفظ القاف جيماً مفخّمة) في صعيد مصر، أن يبقى في الواجهة، هو لا يخفي الأمر، يسعى لذلك بكل الطرق والوسائل. أحياناً يخطئ واحياناً يصيب، لكنه يحب هذه الضجّة. هو يدرك بذات الوقت أن “الضجة/التريند” سرعان ما ستخبو إذا لم “يلحقها” بعمل “يدعم” استمراريته ويؤكد أحقيته بالبقاء في “الواجهة” ضمن “حرفته” ذاتها. هو فعلياً لم يقدّم أي شيء يذكر بنجاحه البارز في العام 2016 كما أسلفنا مع “الأسطورة”. هو “حلب” ذلك النجاح بكل الوسائل والطرق ولم يكن آخرها بالتأكيد إعلان شركة فودافون الذي جمع شخصياته من مسلسلاته وأفلامه في مشهدٍ واحد أظهر “علو” كعبه كمؤدٍ وكممثل. إنه موهوبٌ بحق، وماهرٌ في الإداء، ذلك أمرٌ لا شك فيه، لكنه وقع فريسة الاستهلاك خلال الأعوام التي خلت، حتى إن البعض اعتبره “one trick pony” (المثل الذي يعطى لنجم العمل الواحد)، هو عرف ذلك، حاول تلافيه، لذلك كانت تجربة “جعفر العمدة” طريقته في الإجابة على كل ما حدث.
إنه مسلسلٌ مباشر لكن ذو بعدين رئيسيين: الشعبوية والأحلام: حيث البطل الشعبي(folk hero) يرتدي ثياب “المجتمع” ذاته الذي يأتي منه بفخرٍ واعتداد، مجتمع “المعلّمين” (جمع معلّم أو “أسطة” بحسب التوصيف المصري) العادي، “جلابية شعبية”، هو لا يحمل “النبوت” في يده، لكنه قد يتكئ على “عصا” للاستعراض وليس للضعف، لا يبتسم إلا لماماً على عادة الرجال الكبار في السن في “كليشيهات” المجتمعات عينها، يعمل “بجد” ويحب “والدته/عائلته” بشكلٍ مبالغ فيه، ويتحدّث بالحكم والكلمات التي تنفع أن “توضع” على شباك “ميكروباص” أو “تكتوك” أو حتى صورة شاب أو فتاة على الفيسبوك (أو أي من مواقع التواصل). هذا البعد الأوّل أما البعد الثاني فهو المشتهى/المرغوب أو المكاغافين (McGuffin) كما يسمّى في مدرسة الكتابة الإبداعية (creative writing school).
المقصود هنا هو “البعد الحلمي” أي الأحلام التي “يشتهيها” معظم الناس: إنه متزوج من “ثلاثة” ويريد الزواج من الرابعة، وهو ما يفعله. “معلمٌ” كبير في “مهنته”، “وسيطٌ” يحتكم إليه الجميع، ويثقون في حكمه وحكمته، قويٌ ذو شكيمة، يضرب “بيده” لا بالاعتماد على “رجاله”، لا يعاقر الخمرة أو المخدرات، يزور أحياناً وبأدبٍ جم إحدى صالات الفرفشة، ويعرف صاحبة المكان التي تعرفه وتخشاه وتقدّره، والأهم من هذا كله: لديه مأساته الخاصة. بدون تلك المأساة يصبح هذا الرجل “ملكاً” أو “امبراطوراً” لا يمكن للمواطن العادي التماهي معه، الانبهار به -والانكسار أمامه حتى- والاعتقاد بأنهما يعيشان ذات الحياة وذات التجارب. هذه المأساة ضرورية للغاية لأنها تفيد في محضر جملٍ من نوع: “انظروا إليه إنه يمتلك كل شيء، ولا شيء” في آنٍ معاً. هنا يقع المشاهد “الشعبي” أمام بطلٍ مكسور، ونحن –كعرب- حضارة الأبطال المكسورين، أصلاً اكتسب الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني سحره من أنه قدّم ولأوّل مرةٍ في الأدب العربي شخصية هذا النوع من الأبطال، ولو أنها موجودة منذ بدايات التراث الثقافي العربي. إنه “عنترة العبسي” ضحية العنصرية والظلم حتى من الأقربين، عدي بن ربيعة المعروف باسمي شهرته “أبو ليلى المهلهل” و”الزير سالم” الذي ففد شقيقه وكسرت حياته لأجل ذلك، وقس على هذا. بالتأكيد ليس “جعفر العمدة” أياً من هذه الشخصيات، لكنه يتلحّف بها ويتكئ عليها كي يشد التعاطف من “جمهوره”، حتى إنه لديه “قسمه” الخاص: لن يكون لديه ذريةٌ بعد الذي حصل لأطفاله؛ ذلك شبيه بقسم المهلهل بألا “يسكن داراً ولا يشعل ناراً” أو عنترة حينما أقسم ألا يتزوّج إلا من “عبلته”.
ولأننا تحدّثنا عن “غريزته” كممثل، فلا ريب أن اختراعه “لحيلة/سلوك” تحريك الشاي بالملعقة المقلوبة تظهر مدى فهمه لاهتمام الناس “بالغرائب”، فالغرائب سواء بالشكل أو بالسلوك يجذب الجمهور، وهو بذلك يرفع من مستوى “محطة الكلام” المعتادة، التي نراها في معظم هذا النوع من الأعمال، كأن يردد عبارة واحدة مثل “الثقة بالله نجاح” التي يكتبها رمضان نفسه عند كل “بوست” أو جملة على مواقع التواصل؛ وذات ما يفعله الممثل السوري تيم حسن كمثال في مسلسلاته من “الهيبة” وصولاً حتى “الزند: ذئب العاصي” هذه الأيام. في الإطار عينه هناك تفاصيلٌ كثيرة يمكن المراكمة عليها: كعلاقته الخاصة والتي تجمع بين الكوميديا والتراجيديا البسيطة مع زوجاته، استعراضه الدائم بأمواله (كأن يشتري مطعم لأنه اشترط عليه ارتداء بدلة رسمية “سموكنغ”)، ناهيك عن أن قصّة المسلسل في حد ذاتها “بسيطة” و”سهلة” وليس فيها أي نوع من أنواع التعقيد. إنه المسلسل الذي يريد المواطن –أي مواطن- أن يشاهدها وهو يشرب الشاي ويدخن “الشيشة” في بيته مع “العيلة”، أو يلعب “حجرين” طاولة في المقهى بجوار المنزل: ضاحكاً أو غاضباً مما يحدث، نائماً متيقناً بأن البطل، سينتصر في النهاية، وسينال الأميرة (أو الأميرات في حال العمدة).
باختصار؛ هو مقالٌ لا أرغبه طويلاً جداً، مع أن الموضوع يمكن الإضاءة عليه من جوانب عدّة أخرى (كإداء الممثلين أو طريقة التقديم/الكتابة)، لكن ببساطة يجب أن يتم قراءته/دراسته ضمن منطق أنَّ ما فعله رمضان ومحمد سامي صنّاع العمل الأساسيين ذكيٌ وللغاية، هم لم يخترعوا البارود كما تبين لنا خلال التحليل، لكنهم استطاعوا “تذخير” هذا البارود، واستخدامه “في موضعه الطبيعي” و”بالطريقة المناسبة”. أما فكرة أن “المسلسل يقارب طبقات منحطة” أو “المسلسل سطحي وسخيف” وهو الكلام الذي “يهاجم” به العمل و”رمضان” ضمناً، فهذا الكلام فيه “عنصرية” من جهة و”عدم وعي” و”رؤية” بالتأكيد.
ملاحظة ضرورية (وهذه النوع من الملاحظات يسمّى في الكتابة الروائية epilogue، ويعني النص الإضافي الذي يمكن وضعه في بداية أو نهاية النص الأصلي ويعطي إيضاحاً أكبر لما حدث أو سيحدث):
شخصياً شاهدتُ المسلسل، وأحببته. أحببت أداء محمد رمضان وأحمد داش الصادق والواقعي للغاية، أما أحمد فهيم فقد اكتشفته واحترمته للغاية. كرهت إداء بعض الممثلين (قد تكون كرهت قاسية، لكن هذا ما حدث). وجدت أداء هالة صدقي زائداً (over acting) في لحظاتٍ ما، وكذلك مي كسّاب. لكن بالمجمل وجدت العمل “مريحاً” و”مخففاً” لأثقال اليوم المنهك. ولربما يكون كلامي مفاجئاً: أحب أن أشاهد جزءاً جديداً منه؛ بنفس الأبطال، مع تغيير الأشرار والأعداء، وبالتأكيد دون سفر البطل (أي العمدة) إلى لبنان (الرحلة التي لا فائدة منها أبداً في البنيان الدرامي).