باستثناء ما كان بدافع الحنين المطلق إلى الماضي أو الانحياز الصارخ إلى الحاضر من قِبل فريقين ينجذب كل منهما تلقائياً إلى زمانه، ليس من الدقة أو الحكمة القول بأن تلفزيون “زمان” كان أفضل من تلفزيون هذه الأيام، ولا العكس. إضافة إلى ذلك، وكما في تعريف الجودة في العلوم ذات الصلة، لا يمكن القول بأن منتج ما أفضل أو أسوأ جودة من منتج آخر تم إعداده بمعايير مختلفة حتى إذا كان المنتجان معدَّين لذات الغرض. المعايير التي أنتِجت بها مسلسلات “زمان” ليست مطابقة أو حتى مقاربة لمعايير مسلسلات اليوم، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى التغيّر الذي يطرأ على حياة الناس وما يستتبعه من تغيير يطال بالضرورة أشكال تعبيرهم الأدبية والفنية.
ما نعنيه بمسلسلات “زمان” هو على الأرجح ما أنتِج قبل أكثر من عقدين أو ثلاثة عقود، أي مسلسلات بداية الألفية والتسعينيات وما وراءها رجوعاً إلى الثمانينيات وربما السبعينيات. ولكن بمزيد من الدقة، الحديث عن مسلسلات “زمان” يبدو دائراً في فلك مسلسلات الثمانينيات والتسعينيات تحديداً، فذاكرة الخائضين في الجدال -سواء من الأجيال الجديدة نسبياً أو من قدامى عاشقي الدراما التلفزيونية- نادراً ما تمتدّ إلى مسلسلات السبعينيات، وحين تفعل ذلك فإن دافعها غالباً ما يكون محض نوستالجيا أكثر من كونه رغبة في المطارحة الفنية، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن توسيع مدى المقارنة ليشمل دراما السبيعنيات سيزيد الأمر إرباكاً في ظلال ما أشرنا إليه من اختلاف واضح في المعايير التي أنتِجت الأعمال الدرامية وفقاً لها في تلك الحقب قياساً إلى معاييرنا اليوم، أو لعل السبب يكمن في قوانا التي لا تطيق الارتداد طويلاً إلى الوراء سوى بتأثير الحنين مجرّداً.
نسبية الأحكام تحيط بنا من كل صوب عند عقد مقارنات من ذلك القبيل، فنحن عادة ما نشير إلى مسلسلات بعينها دليلاً على انحيازنا لدراما هذا الزمان أو ذاك ونغفل غيرها من الأعمال التي قد ترجّح كفة الحكم المناقض. إلى ذلك، كثيراً ما ننوّه بالمسلسلات التي كانت لنا معها ذكريات أثيرة بوصفها ذات أفضلية فنية على غيرها دون أن نكون دقيقين من الناحية الموضوعية بالضرورة، بل نذهب أبعد من ذلك لنصطفي الحقبة الزمنية الفضلى من حياتنا ونختار مسلسلاتها لتكون المثل الأعلى الذي نؤسس عليه أحكامنا الفنية على الجميل والعظيم والخالد من الأعمال.
على غير الحال مع السينما، لم يشهد التلفزيون فترات يمكن وصفها بالمتردّية من حيث قيمة أعمالها الفنية على غرار الحقبة التي شهدتها السينما مع ما عُرف بأفلام المقاولات. ظلّ استقلال التلفزيون المادي نسبياً قياساً إلى السينما، إضافة إلى طبيعة علاقته بالمتفرج، سبباً في أن يكون مستوى الأعمال الفنية التلفزيونية بعيداً عن الخضوع لوطأة ظروف اقتصادية – أو حتى اجتماعية وسياسية – تزيد من تأثير وتداعيات مقولة “الجمهور عاوز كده” على نحو ما حاق بسينما منتصف الثمانينيات، دون أن تشكّل تلك الذريعة سبباً مقبولاً لتمرير ظاهرة التردّي الفني بطبيعة الحال.
ولأن عوامل ازدهار الفن والأدب بصفة عامة كثيرة ومتداخلة، فإن من الطبيعي أن تتباين الفترات التي تشهد ازدهاراً للنشاط الدرامي التلفزيوني مقابل تلك التي يسود خلالها قدر من الخمول الفني، وبطبيعة الحال تظل الأعمال الاستثنائية القابلة للبقاء بقوة على مر أجيال متعاقبة في الذاكرة والوجدان الجماهيريّيَن قليلة ومرتبطة إلى حدّ بعيد بالمواهب الاستثنائية التي بإمكانها تفجير الأعمال الخالدة.
المواهب لا تفنى ولا تقلّ عدداً بل تتزايد بمرور الزمان بحكم تزايد الناس، هذا من حيث الكم. أما من حيث النوع، فإن تراكم الخبرات ينعكس على طبيعة المواهب الجديدة المتفجرة وقد استوعبت كل ما سبقها على طريق الفن والحياة، سواءٌ بطريقة مباشرة بعد دراسته أو انعكاساً لتأملات عميقة دون أن تكون واعية بالضرورة لكل بواعث تلك التأمّلات.
ولكن الفرص المتاحة أمام المواهب الجديدة المتفجّرة ليست دوماً متزايدة بما يوازي عددها وقيمتها كما يُفترض في الوضع المثالي على أي صعيد، ولذلك بدوره أسبابه المتعددة والمتداخلة. على كل حال، وبصفة عامة، تُتاح منطقياً أفضلية للأزمنة اللاحقة لتكون أكثر قابلية لإبداع أعمال فنية أكثر عدداً وأوفر نضجاً، ولكن هل يتحقق ذلك بالفعل؟ من حيث العدد نعم لا ريب، أمّا من حيث القيمة/النضج فليس دوماً، بل على العكس قد تكون قيمة بعض الأعمال الفنية في الحقب السابقة (الثمانينيات والتسعينيات مثلاً) أرفع من قيمة بعض أجود الأعمال الفنية الحالية، مع ضرورة الحذر من تأثير النوستالجيا في الحكم بالنسبة للأجيال السابقة في هذا المقام، ومع الانتباه للحذر في المقابل من الضيق من القديم لمجرد كونه قديماً عند الحكم على الأعمال السابقة من قبل الأجيال الحالية.
“الأجمل” حكم عاطفي من حق أيٍ منّا أن يمنحه لما يشاء من الأعمال، بل حتى “الأفضل” يمكن أن يكون حكماً عاطفياً إذا كان مثار التفضيل هو ما يؤثره مَن يتقدّم بالحكم بناءً على نزعته الشخصية لا استناداً إلى مرجعيات فنية ونقدية موثوق بها، وإن كنت أشك أن النزعات الشخصية تمكن السيطرة عليها في كل الأحوال، فهي قادرة على أن تنسرب حتى في غضون ما يتدثّر بغطاء موضوعي صارم من الأحكام النقدية.
بعيداً إذن عن ألقاب “الأجمل” و”الأفضل” وحتى “الأقيم”، القابلة جميعاً للجدال بحجج لا تنتهي، ثمة تغيرات عديدة من الممكن قراءتها والاتفاق عليها إلى حد بعيد عند مقارنة مسلسلات “زمان” بمسلسلات الآن. على سبيل المثال، انتقلت نجومية المسلسلات من المؤلف والمخرج قديماً إلى المنتج حالياً، فأصبحت المسلسلات تُنسب إلى الشركة/القناة المنتجة أكثر من نسبتها إلى مؤلفيها أو مخرجيها، وذلك على اعتبار أن نجومية الممثلين البارزين – من حيث نسبة العمل إليهم – لم يتغير وضعها كثيراً بين مسلسلات “زمان” ومسلسلات الآن في شيء باستثناء مضاعفة الأجور أضعافاً كثيرة، وهذا ليس هيّناً على كل حال.
كذلك أضحت ورش الكتاب بدعة رائجة حرمت المؤلف المتميز من أن يبرز اسمه بوصفه نجماً متفرّداً في العمل، في حين أتاحت تلك الورش للعمل فرصاً أكبر للتجدّد دون أن تحول تماماً دون الوقوع في فخاخ التكرار والملل مع تكاثر الحلقات وتعدّد الأجزاء، فالعمل آخر المطاف يخرج إلى الجمهور بروح واحدة وملامح محددة لا أرواح متعددة ومعالم مختلفة كل مرة مهما يكن عدد المشاركين في ورشة الكتابة وتنوّع آفاقهم.
النجومية المطلقة لم تغب عن المؤلفين والمخرجين فحسب، بل غابت من قبل عن التلفزيون نفسه فلم يعد وحده الجهاز الذي ينفرد بجلب المتعة الفنية مجاناً إلى المشاهد في بيته إزاء السينما والمسرح اللذين يسعى إليهما المشاهد ويدفع مقابلاً مادياً نظير ما يمنحانه من المتعة. أضحى التلفزيون في مأزق واضح عندما اقتحم الهاتفُ المحمول حياة الناس بأسرها فباتت المنصات الإلكترونية/وسائل التواصل الاجتماعي مع المشاهد أينما سارّ وحيثما حلّ في أي وقت، فلم يجد التلفزيون بدّاً من أن يحاول احتواء تلك المنصات بإعادة تناول موادها بالتعليق والتحليل ثم – حرفياً – باستيعاب تلك المنصات كتطبيقات تمكن مطالعتها من داخله جنباً إلى جنب برامجه من مختلف شركات البث، فغدا “الصندوق السحري” يحتفظ بمسمى التلفزيون وهو أقرب إلى أن يكون هاتفاً عملاقاً غير محمول برفاهية مشاهدة مدهشة.
ما بين مسلسلات “زمان” ومسلسلات الآن يبقى الاختلاف قائماً بين المشاهدين استناداً إلى مرجعياتهم على اختلافها العريض. عربياً، وبصفة خاصة، ظلت أصالة الأفكار وجدّة التناول والقدرة على إلهام الآخر بمثابة التحدّي الأبرز الذي لا تزال الأعمال الفنية العربية بصفة عامة قليلة الحيلة أمامه مقابل ثقتها الكبرى في العدو وراء كل بدعة فنية مستوردة والتباهي بجودة الاستنساخ.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])