أطلت علينا قناة الجزيرة القطرية بحوار من الطراز الرفيع، في برنامج “لقاء خاص”- الذي تناوب على تقديمه العديد من المذيعين ومقدمي البرامج في القناة المثيرة للجدل دائما- مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
وانطلاقا من الأجندة الخفية وحتى المعلنة لقناة الجزيرة، لم تكن الأسئلة المطروحة على الرئيس التركي من تلك العينة التي توجه للرؤساء في المؤتمرات الصحفية، والتي يسعى من خلالها المراسلون المهرة لإحراج المسؤول ودفعه للخروج عن حالة الصمت بشأن قضية ما، إنما كانت كعادة الجزيرة عندما تريد “تلميع” شخصية ما أسئلة متفق عليها، حيث وجه المحاور أسئلة تبدو “محرجة”، لكنها في حقيقتها كانت مجرد تمهيد لإجابة يريد الضيف الترويج لها.
مثال ذلك، الحوارات التي تبثها القناة مع قادة الحركات الإسلامية، وزعماء مليشيات العنف في مختلف بقاع الأرض، ومنها حوار أحمد منصور مع زعيم “جبهة النصرة” أبو محمد الجولاني، وهو الحوار الذي حضر فيه منصور حافي القدمين، دون حذاء، فيما تخفى الضيف مرتديا غطاء رأس، وبزاوية تصوير لا تظهر ملامح وجه!
وبالعودة إلى الحوار الذي أجرته المحطة مع إردوغان، ينبغي أن نقف هنا عند جملة من النقاط الواجب طرحها للنقاش، على المستوى المهني الإعلامي، وعلى المستوى السياسي، الذي يلقي بظلاله على نوعية الأسئلة التي ينبغي أن يطرحها الصحفي أو المحاور على ضيفه.
وفيما يخص الجوانب المهنية الإعلامية، فيجب بداية توضيح أن الجزيرة تدعي انتهاج المهنية، لكنها في حقيقة الأمر مهنية على مقاس خاص. وتراجع المهنية أمر جلي لكل منصف يعمل في مهنتنا، بل إن أخرين لا يعملون في المهنة ولا يمتلكون مفاهيم واضحة عن مصطلحات مثل الحيادية والتوازن في الطرح، يؤكدون أن الجزيرة تسير في طريق مغاير لهذه المفاهيم.
ولا أنكر أن الجوانب السياسية طغت على المهنية، والتي سعى فيها مقدم البرنامج الى الظهور وكأنه يمسك بتلابيب هذه المهنية، فمثلا كان المحاور يسعى لطرح أسئلة في ظاهرها مفاجئ للضيف، لكنها لم تكن كذلك. ورغم أني لن أدعي امتلاك معلومة أن إردوغان اطلع على “سكريبت” الأسئلة المعدة سلفا قبل الحوار، لكني على قناعة تامة بأن طبيعة هذه الحوارت تفرض اطلاع الضيف على الأسئلة قبل اللقاء.
ما يؤخذ على مقدم البرنامج أنه لم يطرح الأسئلة التي كان المواطن العربي (وهو هدف القناة والمتلقي الرسمي لمحتواها)، يأمل في سماع إجابة لها.
المتلقي العربي- في ظني- كان ينتظر أسئلة أكثر عمقًا ومباشرةً، لماذا لم تقضي تركيا على عمليات التهريب من قبل عصابات مجرمة تلقي بالسوريين والمهاجرين في قاع البحر، وقبالة الشواطئ التركية؟ لماذا لم تتحرك تركيا إردوغان لمحاربة الإرهابيين في سوريا والعراق، وبالكاد انخرطت متأخرة في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة هناك لضرب “داعش”؟ ما الذي دفع تركيا إردوغان إلى انتظار نتيجة الانتخابات البرلمانية حتى يوجه ضربات إلى حزب العمال الكردستاني (المصنف ارهابيا لدى تركيا)، وذلك بعد إعلان فوز حزب الشعوب الديمقراطي (الموالي للأكراد) لأول مرة في تاريخه بمقاعد في البرلمان بنسبة وصلت الى 13% من مقاعده؟
ألم تكن هذه الضربات محاولة لكسب شعبية جديدة بعدما انهارت عقب سعيه المحموم للاستحواذ على السلطة في بلاده وتحويلها إلى رئاسة إردوغانية لا غير؟ لماذا يصنف إردوغان حزب سياسي سمحت له الأنظمة الإدارية التركية بالعمل وفق إطار تنظيمي رسمي ونافس في الانتخابات، بأنه يوالي من يصفهم بـ”الإرهابيين”.
ما بدا واضحا في هذا الحوار، أنه تجسيد للأزمة الإعلامية التي تعيشها المنطقة، فإن كنت على رأس نظام يمتلك إعلاما قويا مؤثرا- ولو بالكذب والتلفيق وخداع العوام- فلن تجد أزمة في أن تهيمن وتبسط يديك وتحكم قبضتك على زمام الأمور من حولك، بل لا مبالغة أنك ستصير بطلا قوميا و”خليفة” محتملا!!
الكيل بمكيالين كان ولا يزال وسيظل منهجا لقناة الجزيرة في محاورة أي ضيف على مستوى إردوغان، إذ إن غياب العدالة في الطرح والإصرار على التضليل والرغبة في تشويه الأخر المخالف، سيظل هو المعيار المتحكم في “ستايل بوك” (أسلوب) قناة الجزيرة ومن يدور في فلكها.
ومن النقاط التي ينبغي الإشارة إليها تعليقا على هذا الحوار، تلك الفظاظة في الحديث التي انتهجها إردوغان، فلم يكن دبلوماسيا في حديثه، بل استخدم ألفاظا بعينها تنم عن لغة حوار حادة واختار كلمات حادة بدا أنها لتوصيل رسالة لأطراف بعينها.
خلال اللقاء التلفزيوني، حضرتني مقاربة بين موقف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، فوجدت أن سياسات كلا الشخصين تبدو وكأنها تخرج من معين فكري واحد، رغم اختلاف واقع الأمور في كلا البلدين.
إردوغان يتهم فصيلا سياسيا يمارس عملا منظما بأنه “جماعة إرهابية”، لكنه لا يتلقى اللوم في ذلك، لا من مذيع الجزيرة ولا من أي زعيم أوروبي ينشد الديمقراطية هناك. وفي المقابل، السيسي يتهم جماعة الإخوان في مصر بأنها إرهابية، لكنه يتلقى اللوم والتشهير الإعلامي من الجزيرة لموقفه من هذه الجماعة، على الرغم من أن السيسي في موقفه يشاركه قطاع عريض من المصريين في وصفه.
إردوغان يزعم أن الأكراد نجحوا في مناطق نفوذهم عبر إجبار الناخبين على التصويت لهم، ويا لغرابة الأمر، فهذا هو نفس الادعاء الذي يروجه كثيرون في مصر، بأن الإخوان فازت في دوائر انتخابية بعينها من خلال إرهاب الأقباط وكبار السن أو منعهم من الذهاب للتصويت حتى يتثنى لأنصارهم التصويت بدلا منهم.
إردوغان قال إنه يدرك “مخاطر التحالفات في الحياة السياسية لتركيا”، بل ووصل به المدى أن يعلن رفضه خلال المقابلة لنتائج الانتخابات التركية الأخيرة، والتي لم يستطع فيها حزبه أن يحصل على أغلبية لأول مرة منذ بلوغه السلطة تمكنه من تشكيل حكومة منفردا، وأعرب عن أمله في أن تتغير النتيجة!!
إذن الرجل يرفض نتائج الديمقراطية التي يرددها حتى صدع الرؤوس بها. فلماذا العيب إذن على الأوضاع في مصر، عندما تم حل مجلس الشعب في 2012، وروج المعارضون لذلك أنه نكوص عن الديمقراطية، ورفض لنتائجها العذراء!!
وللمفارقة العجيبة أن إردوغان وصل به المدى في المقابلة التلفزيونية أن يقول لمواطنيه “صوتوا لحزب واحد يكون حاكما لتركيا”، هكذا نصا.
يا راجل أين تعدد الأحزاب؟ أين المبارزة السياسية؟ وأين حديثك عن ديمقراطية النتائج المقدسة للانتخابات؟
ألم ينتقد رافضو النظام الحاكم في مصر الآن دعوته بأن تكون هناك قائمة موحدة للأحزاب المدنية؟ وهو ما يعني ضمنا أنه يريد حزبا واحدا يحكم مصر! المواقف تتشابه لكن المبررات تختلف.
نقطة أخرى في الحوار الذي لم يكن شيقا على الإطلاق، تلك النظرة الاستهزائية التي أبداها إردوغان قبل الشروع في الإجابة عن بعض الأسئلة، ما يبرز محاولة التبرير النفسي لذاته المتضخمة كذبا!
ومن بين أكثر الأسئلة التي تعبر عن طبيعة الحوار الترويجي للرئيس التركي، رده على سؤال بخصوص زياراته الميدانية خلال الانتخابات، وأن ذلك ربما مثل داعية رئاسية لحزب منافس على السلطة، بما يخل بقواعد العدالة في المنظومة الانتخابية، فجاء رد الرجل بأنه يرفض أن يقف أحدا “عائقا بينه وبين المواطن”!!
هكذا بكل بساطة الرجل تذكر أن يتواصل مع المواطن التركي فقط خلال الدعاية الانتخابية، إذن لما تصطحب معك رئيس وزراءك في هذه الجولات وهو رئيس حزب العدالة والتنمية المنافس مثله مثل باقي الأحزاب؟!!
فلماذا كنا نعيب على مبارك والحزب الوطني المنحل ما يقوم به خلال فترة الدعاية الانتخابية، عندما كان لا يتم افتتاح المشروعات إلا قبيل انتخابات البرلمان.
النقطة الاخيرة، دفاع إردوغان عن النظام الرئاسي الذي يجمع كافة السلطات في قبضته، يبرهن على ديكتاتوريته المخبأة تحت قميصه، أليس هذا النظام ما يرفضه البعض في مصر بدعوى أنه يكرس لفكرة الرئيس الأوحد والقائد الفذ؟! أليس هذا النوع من النظام هو ما كان يعارضه البعض ويسعى لنظام برلماني أو في أفضل الظروف نصف برلماني!!! لماذا إذن كل هذه الجلبة والضوضاء.
بإيجاز.. إذا كنت تملك إعلاما مؤثرا فستحقق أهدافك مهما كانت دنيئة ومعادية للإنسان، وإذا كنت ضعيفا لا تجد من يروج لك حق الترويج، فلن تنجح حتى لو لقبوك بـ”رئيس الفقراء”.