خاص “إعلام دوت كوم” أحمد أمين
عرفتُ أحمد أمين من خلال فيديو قصير ظهر أمامي مصادفةً على اليوتيوب؛ كان يقدّم من خلاله مهرجان جوائز السينما العربية قبل عدّة أعوام: كان متردداً، مربكاً، بدا ذلك جلياً واضحاً لمن يشاهد / شاهد الفيديو: يتنفس بصعوبة، يتحرّك بعصبية، لكنه بنفس الوقت أظهر شيئاً من موهبته التي ستلمع بشكلٍ أكبر فيما بعد: كان موهوباً وبشدة وفوق كل هذا استغل هذه التجربة على الرغم من عدم اهتمام “النجوم” بفقرته، حتى إن معظمهم تنبه وضحك من قلبه حينما قال مشيراً إلى تلك الفكرة: “كتير سألوا مين أحمد أمين أصلاً؟”. بدا لمن يشاهد الفيديو أن النجوم بمعظمهم لم يكونوا يضحكون على ما يقولوه، وكانوا بالفعل يسألون: “من هو هذا؟، ومن أحضره، ولماذا؟”.. اليوم، بات الجميع يعرف من هو “أحمد أمين”.
بعد مشاركات جادّة في مسلسلي “ما وراء الطبيعة” (كتابة أحمد خالد توفيق وسيناريو وإخراج عمرو سلامة)، و”جزيرة غُمام” (2022، كتابة عبد الرحيم كمال وإخراج حسين المنباوي)، وفيلم “برا المنهج” (2021، كتابة وإخراج عمرو سلامة)، وصنعة كوميدية متميزة مع مسلسل الوصية (2018، كتابة أيمن وتار ومصطفى حلمي وإخراج خالد الحلفاوي)، أثبت أمين أنه في مكانه الصحيح، وكان التطوّر الطبيعي لهكذا حالة هو تطوير “الصنعة”؛ لذلك كان مسلسل “الصفّارة”.
باختصار أتى الصفارة ليكون “الكرزة فوق الكريمة التي تغطي الكيكة”: إنه تتويج لنتاج عمل سنوات. مسلسلٌ كوميدي خفيف، هذا بحسب الظاهر: عملٌ تركيبي مبني “طوبة طوبة”، معقدٌ للغاية، مجهدٌ كثيراً، مكتوب لأمين وليس لأحدٍ آخر. يكفي فقط النظر إلى قائمة الممثلين في العمل حتى يتنبه المشاهد إلى أنه أمام عملٍ صُنع باحترافٍ بالغ ليكون “مساحة الإقلاع” (launching pad) لمشروع أحمد أمين لا الكوميدي فحسب، بل “المسيطر” على ساحةٍ الكوميديا في مصر، والتي حاول كثيرون الإمساك بها والتقافها من يدي “الزعيم” عادل إمام.
نعمُ بالتأكيد نجح محمد هنيدي في شد البساط بقوة في فترةٍ من الفترات بعد فيلمه “المدوي” “صعيدي في الجامعة الأميركية”(1998، كتابة مدحت العدل، إخراج سعيد حامد)، ليتبعه مجموعة محاولات جادة من هاني رمزي، كريم عبدالعزيز، الراحل علاء ولي الدين، إلى أن جاء “محمد سعد” مع “لمبيه” وكسر كل القواعد، لكن ولأسباب كثيرة لم يعمّر (وهذا سنفرد له مقالاً لاحقاً لأنه يستحق الحديث عنه وعن تجربته وما الذي أوصلها إلى هذا الحد من المأساة خصوصاً مع تجربة مثل “الإكسلانس” هذا العام).
اليوم هناك وجوه أكثر شباباً مع الثلاثي الذي بدأ معاً، وسرعان ما انفصل: شيكو، أحمد فهمي، وهشام ماجد. هناك أكرم حسني “الكوميديان المفترس” على طريقته، وبالتأكيد يتمترس خلف هؤلاء أحمد أمين والذي أثبت أنه يعرف من أين تؤكل الكتف بوضوح وذكاء. يمكن أن يقال بأن أحمد أمين يمتلك ميزتين يعوّل عليهما كثيراً: الأولى أن لديه “ذكاء عملي” يستخدمه بحرفةٍ مرتفعة، أما الثاني فهو تواضعه “اللمّاح” عند الحاجة، بمعنى أنه لايخجل من طلب المساعدة إذا كانت تنقصه أو كان بحاجة لتوسيع مدارك فكرته أو مسلسله. وهاتين الصفتين تنقصان معظم “النجوم” أو من يريدون “أن يكونوا نجوماً” في وطننا العربي؛ والأمثلة على هذا كثيرة.
بالعودة للمسلسل حديث الساعة: صُنع مسلسل “الصفارة” على نارٍ هادئة، كل ما فيه يوحي وبشكل حقيقي أنّه ليس عملاً معتاداً أبداً: أولاً اعتمد أمين على حرفة “ورشة الكتابة” أي أن هذا المسلسل يصنعه “مجموعة كتّاب” يتناقشون، ويحللون، ويتحاورون فيما بينهم كي ينتج هذا العمل، وهذا كنت قد حكيته مراراً في مقالاتٍ سابقة أن العصر القادم للدراما هو “عصر ورش الكتابة” وأن عصر الكاتب المنفرد آخذٌ بالانقراض والاندثار.
استعان أمين بمحمود عزّت (رئيس فريق كتاب برنامج أبلة فاهيتا المعروف)، سارة هجرس وشريف عبدالفتاح شركاءه في الكتابة في برامجه مثل البلاتوه وأمين وشركاه، وعبدالرحمن جاويش (الذي شارك في كتابة عدة أعمال منها متحف الدحيح وسواها). هذه المجموعة المتجانسة بشكلٍ كبير كان من الطبيعي أن تخرج عملاً أقرب إلى أمين نفسه ما يريده خصوصاً أنه “شاركها” أفكاره والكتابة.
ماذا عن التتر؟ أغنية مصرية أصيلة، كلماتها شعبية، فيها نوع من الإيفيهات، اللعب على الكلام، وفوق هذا تحاول أن تحكي شيئاً. مزجت أغنية التتر صوت أحمد أمين مع صوت نجم ثمانينات القرن الماضي هشام عبّاس، مع “صنعة” جرافيكس حلوة تعطي المشاهد بدايةً مشجعة للغاية، ناهيك عن موسيقى “ممتعة وخفيفة”.
نقطة القوة الثانية في العمل، هي واحدة من أهم نقاط صنعة الدراما؟ الحلقة الأولى. ينسى معظم صنّاع الدراما الحديثون – المحدثون أيضاً (وهذا توصيفٌ لا إهانة)- أن الحلقة الأولى في أي عمل -خصوصاً في موسم درامي مكتظ- عليها أن تكون “ضاغطة”، “مشوقة”، “جذابة فوق العادة”، (وهذا الأمر لا نشهده في تقريباً أكثر من 70 بالمئة من المسلسلات الحالية).
جاءت حلقة الصفّارة الأولى بمثابة القنبلة، بداية مشوقة، حدث بارز، إداء أكثر من رائع من أحد أفضل المؤدين الحاليين محمد رضوان (بدور الحاج لبلوب) والذي يثبت أنه مهما كان دوره صغيراً فإنه يلمع على الشاشة (وهذا دليل على أن الدراما المصرية ولاّدة بحق). أمين لعب بالتأكيد على معتاده الكوميدي الجذّاب، إنه يستغل كل ما تعلّمه في برنامجه “البلاتوه” ليطبّقه ههنا، كما يظهر حينما يمرر تعليقه بسلاسة على اتصالات “الإعلانات/التيليماركتنغ” (telemarketing). هو يبدأ برواية القصّة “المتخيلة/غير المعقولة” كأنها طبيعية للغاية من خلال مزج الخيال بالواقع الفج (grit) والهزائم والمأساة: فيقتنع المشاهد بإمكانية حصول المدهش/المتخيل. إنه يروي حكايته، ويضع المشاهد كما أبطال العمل أمام النهاية الوحيدة المحتّمة؛ لذلك يكون الانتقال إلى عالمٍ موازٍ ذو نتيجةٍ مختلفة أمراً بديهياً عادياً، فضلاً عن “نكهة” فكاهية خاصة ميزته.
ولأننا نتحدّث عن حرفة الدراما هنا، استخدم أمين واحدة من أهم تقنيات الصنعة وهي كما يسمونها باللغة الإنكليزية “the oldest trick in the box” الفكرة هي ألا تحضر “نجماً أو نجمة” إلى عملك الذي تريد أن “تضيء” فيه أكبر منك. في النهاية هناك صراع “نجومية” (star power) أحببنا الأمر أم لم نحببه.
يفهم أيُ محترفٍ بأنه ليس هناك من حاجةٍ لإحضار نجمٍ طالما أنه يريد أن يكون العمل “له” قبل أي شيء، وفي هذا لا إشكالية البتة، هذا أصل العمل الدرامي في محورٍ ما. هذا بالتأكيد لا يمنع أن يحضر صاحب العمل ونجمه الرئيسي مؤدين “خارقين” لكن تنقصهم الشهرة إلى حدٍ ما، فيكون نجاحهم هنا بمثابة “إنطلاقتهم” وبوابتهم، وهذا أمرٌ –كما أشرنا- اعتياديٌ ويتكرر منذ الأزل.
قد يبدو هذا الكلام مباشراً أكثر مما ينبغي، أو قد لا يقوله أحدٌ علانية: لكنه في النهاية واقع. أحضر أمين مجموعة من أفضل المؤدين/الممثلين الذين يمكن اعتبارهم “نجوماً” خلال الأعوام الفائتة، فمن الموهوب للغاية طه دسوقي، والذي أثبت في هذا المسلسل أنه أكثر من مجرد “ممثل” أو “شخصية جذابة” فبدّل جلده غير مرة بسهولة ومراس. نفس الأمر ينسحب على آية سماحة والتي يعوزها شيءٌ من الخبرة، لكن ذلك لا يمنع أنها أدت بمهارة، خصوصاً أن العمل –في الصفارة- صعب ومتعب، فأن تخلع جلدك كل حلقة وترتدي “شخصاً” ليس بالأمر الهيّن، ويحتاج فوق الخبرة إلى تمرينٍ شديد.
طبعاً أمين يدرك حرفة الاعتناء بركيزة العمل الثانية وهي الركون إلى ممثلين “مخضرمين” لإضفاء نوع من “المتانة” و”الثبات” إلى العمل، فركن إلى القديرة إنعام سالوسة في دور والدته، وكانت “ضربة المعلّم” إضافة شيرين رضا التي لاتزال تثبت أنها من الوجوه التي يمكنها إضفاء نكهة خاصة في أي ظهور لها على الشاشة وهو ما ذكر به أحمد مكي في “الكبير أوي” حينما استضافها في “مهرجان المزاريطة” العام الفائت. تمتلك شيرين رضا هالة وكاريزما خاصة بها، أظهرتها قبل أعوام في مسلسل “لا تطفئ الشمس”(2017، تأليف إحسان عبدالقدوس، سيناريو تامر حبيب إخراج محمد شاكر خضير) ومن يومها وهي لم تتوقف نهائياً.
النقطة الأخيرة، وهذه نقطة يمكن التعويل عليها كنوع من الاستشراف بعد كل ما قلناه حول أحمد أمين: “الصفارة” ليست أفضل ما سيقدمه هذا الممثل/المؤلف الموهوب، الصفارة ستكون بوابة النجاح وفاتحته، هو سيراكم على هذا الأمر، وسيتفوّق عليه، قد لايكون عادل إمام القادم، هذا أمرٌ أكيد، لكنه بالتأكيد سيكون أحمد أمين الأوّل والوحيد.