اندهشت كثيرا من الاندهاش الكبير الذي أبداه الأستاذ هشام قاسم مندهشا لـ“إعلام.أورج”، بسبب اكتشافه أن 75% من الصحفيين العاملين في المصري اليوم يعملون إلى جانبه في أماكن أخرى (برامج تلفزيونية غالبا)، وأنهم لايقدمون لجريدتهم الأم 48 ساعة عمل أسبوعيا كما ينص التعاقد.
اندهاش الأستاذ هشام، جاء بالتزامن مع قرار اتخذه هو بالاشتراك مع إدارة الجريدة لإعادة هيكلة الصحفيين بالمؤسسة ضغطا للنفقات ولمواجهة أزمات مالية عاصفة تضرب أهل الإعلام في مصر، كما يبدو واضحا، أو لإعادة الانضباط والالتزام ولوضع المؤسسة على الطريق الصحيح كما يقولون هم ذلك.
أما الاندهاش من اندهاش أشهر ناشر للصحف في مصر، فهو يأتي من كون أن أحد مؤسسي المصري اليوم قبل 11 عاما، لايبدو مدركا لطبيعة السوق الصحفية في بلدنا العجيب. الأمر أشبه بأن يخرج وزير التربية والتعليم ليعلن أنه مندهش من أن كل تلاميذ المدارس يتلقون دروسا خصوصية!
فالصحفي المسكين الذي تخرج لتوه من الجامعة، إذ حالفه النصيب أو الحظ أو الكفاءة أو الواسطة للالتحاق بجريدة خاصة أو حكومية، سيجد نفسه (تحت طلب) المهنة لـ24 ساعة، مقابل أن ينال راتبا يتراوح بين 400 جنيها و1200 شهريا، قبل خصومات التأخير، ونفسنة المدير، أو أي شئ لزوم التكدير. وهذا الشاب الفتي عليه أنه يدبر حاله بهذا المبلغ فيأكل ويشرب ويدخن ويذهب للسينما ويعزم صديقته على حاجة ساقعة ويدفع إيجار الشقة المشتركة ويشتري 2 كيلو تفاح لأهله في كل زيارة تعبيرا عن الامتنان وللتأكيد على أنه أصبح (صحفي كسيب)، وأن يرتدي ملابس تليق بوظيفته، وأن يحلق ذقته وشعره، وأن يقتني كتبا وصحفا، وأن يتبرع بما تبقى في النهاية إلى صندوق (تحيا مصر).
هكذا يكون من الإنساني وليس فقط من الطبيعي أن يبحث هذا الصحفي عن عمل إضافي، شأنه في ذلك شأن كل أصحاب المهن الأخرى في بر مصر المحروسة، ولأن الصحفي ياولداه في الغالب (مش صنايعي) وبالتالي لايستطيع في المساء أن يقوم بتصليح حنفيات الجيران أو ضبط وصلات الكهرباء في المحلات أو أنه (ياخد حيطان المنازل الجديدة وش بوية)، ثم أنه في الأغلب لايستطيع القيادة أو وافد على القاهرة ولايعرف دهاليز شوارعها، وبالتالي لايستطيع أن يعمل سائقا على تاكسي في المساء، فإن الصحفي من هؤلاء لايجد أمامه بدا، سوى أن يعمل في وظيفة أخرى متصلة بالإعلام أيضا، هكذا يبحث عن أي واسطة أخرى تفتح لها باب “سبوبة” في إحدى محطات التليفزيون ليبدأ سلم الإعداد من أوله، وهي في الأغلب مهنة (شافطة) للوقت والطاقة والجهد، وتمص الحياة منك مصا، وتضعك في توتر عصبي لاينتهي أبدا، ولاتمنحك شئ سوى الفلوس، لكن من قال أن الفلوس ليست سببا كافيا للعمل؟
ثم أنه لا عدالة أو تطبيق للقانون في هذا البلد. والصحفي الشاطر من هؤلاء قد يتم ركنه على الرف في الصحف الحكومية، إذا لم يكن على هوى الإدارة، أو قد يتم تطفيشه أو إجباره على الاستقالة في الصحف الخاصة، إذا جاء رئيس تحرير جديد لاتعجبه قصة شعره أو ليس من شلته المفضلة، بل حتى قد يجد جريدته قد أغلقت كده ذات صباح دون إخطار أو تعويض أو حتى طبطبة على الكتف، وبالتالي فإن الصحفي طوال الوقت يعيش على حافة الخطر وقطع الأرازق إضافة إلى قتل موهبته، في ظل قوانين عمل غير مفعلة، ونقابة لاتقدم سوى البدل الشهري ونظام علاجي جيد يساعده على مواجهة الأمراض التي تصطادك فور دخولك المهنة. وعليه فمن المنطقي جدا أن يؤمن نفسه في مجاله بوظيفة أخرى (شريفة) إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
فهل لا يعرف أشهر ناشر صحف في مصر وأكثرهم خبرة واحترافا أن هذا هو المسار الطبيعي لأي صحفي في مصر؟
هناك مسارات أخرى قطعا، منها مراسلة صحف الخليج أو لبنان، وهناك قامات صحفية كبيرة، وبعضها شغل أو لايزال يشغل مناصب نقابية بارزة، تعمل في صحف حكومية، بينما تراسل صحف خليجية منذ أكثر من ربع قرن وحتى يومنا هذا، وهو أمر لايعيب قطعا، لأن (فلوس الصحافة المصرية لاتأكلك سوى العيش الحاف.. المدعم(
الفلوس هدف بكل تأكيد، لكن على الجانب الأخر، فإن هناك طاقات صحفية لاتسوعبها الصحف بوضعها الحالي لأسباب عدة، وبالتالي فإن حصر الصحفي في قالب واحد تفرضه عليه المؤسسة، يقهر هذه الطاقات بداخله. تخيل مثلا لو أن الأستاذ هشام قاسم أصدر قراره هذا في الثمانينيات عندما كان منتدبا لإصلاح أحوال مؤسسة روز اليوسف، هذا معناه أننا لن نرى محاورا فذا مثل مفيد فوزي معدا تليفزيونيا حويطا أو مقدما لبرامج مغايرة لأن تمامه هو (48 ساعة أسبوعيا في صباح الخير). هذا نفسه هو مصير نجم تليفزيوني استثنائي هو إبراهيم عيسى.شرحه في ذلك آخرون على اختلاف كفاءتهم ودرجة الرضا عن أدائهم الإعلامي مثل لميس الحديدي ووائل الإبراشي وعماد الدين أديب ( طبعا نؤيد هذا القرار بخصوص أحمد موسى ومصطفى بكري تحديدا).
الجمع بين وظيفيتن هو الأساس وليس الاستثناء لكل المصريين، يستوى في ذلك أصحاب الصحف الخاصة الذين يريدون أن يجعلوا صحفييهم هم الاستثناء فحسب، فالسادة صلاح دياب المالك الرئيسي للمصري اليوم، لايعمل في صناعة الصحف فقط، بل يملك عدة شركات بترول، وشركات حلويات شهيرة، وأكمل قرطام المالك الرئيسي للتحرير يعمل في صناعة البترول أيضا، كما أن إبراهيم المعلم المالك الرئيسي للشروق لديه دار لنشر الكتب، وشركة إنتاج سينمائي ودرامي، ومصنع للكرتون المقوى، ومحمد الأمين المالك الرئيسي للوطن، يمتلك شبكة تليفزيون، ولديه عدة شركات أخرى في مجالات استثمار مختلفة، بل أن حتى الأهرام المؤسسة الصحفية الحكومية (الكُبرة) لديها أكثر من 10 شركات أخرى في مجالات عدة (من بينها مصنع للبيرة تم بيعه لمستثمر خاص قبل سنوات، وأخر لصناعة الأدوات المكتبية)، لا علاقة لها مطلقا بالصحافة.. فلماذا على الصحفي فقط أن يكون وحده هو الملتزم بالتفرغ لمؤسسته، بينما البلد كلها شغالة في أكثر من سبوبة؟