قويّ البنية وسريع، يعرف كيف يتّخذ أفضل المراكز والأوضاع في الملعب لاقتناص فرصة تسجيل هدف أو تنفيذ تمريرة حاسمة، مراوغ قدير، لكنه لا يسرف في هذه المهارة بل يقوم في العادة بمراوغة أو اثنتين على الأكثر يتبعهما بتسديدة على المرمى أو تمريرة مؤثّرة لزميل. قنّاص من مستوى رفيع، ليس من السهل أن تعبر الكرة بجانبه قرب المرمى وتفلت من إحدى قدميه أو رأسه. يسدّد نحو المرمى بكلتا قدميه بدقة، بارع في تسجيل الأهداف من الضربات الرأسية في كل الأوضاع حتى تلك التي تبدو مستحيلة. لا تتّصف التحاماته بالقوة فقط وإنما بالفعالية كذلك. باختصار، لاعب مكتمل الأدوات يعرف كيف يستفيد من كل أداة في حوزته لإحراز التقدّم لفريقه وليس بدافع الاستعراض.
كثيرة هي الأساطير في عالم كرة القدم، لكن فرادة أسطورة جورج ويا جديرة بتقدير خاص، فالقول بأن إنجاز الرجل هو الإنجاز الفردي الأعظم في تاريخ كرة القدم على مرّ العصور – كما يشير البعض – قول صائب ودقيق. لم يُولد ويا في ليبيريا فحسب وإنما نشأ وتعلّم أساسيات اللعبة ومارسها فيها، ولم يغادر موطنه إلا بعد أن شبّ عن الطوق الكروي وشرع في البحث عن تألّق يتجاوز حدود البلد ذي الصيت شديد التواضع في عالم كرة القدم حتى على الصعيد الإقليمي.
لم ينجح جورج ويا عالمياً فحسب كما فعل كثيرون غيره من القارة “المظلومة” الشهيرة بمواهبها الكروية التي تصدّرها إلى القارة العجوز، بل بلغ الرجل قمة المجد الكروي حين تُوّج بجائزة أفضل لاعب كرة قدم في العالم سنة 1995 ثم ثاني أفضل لاعب كرة قدم في العالم سنة 1996. لكن رحلة تألّق الإفريقي الأعظم في تاريخ كرة القدم – بحسب كثيرين – حافلة بالتألق قبل هذين العامين وبعدهما، بما يسطّر سيرة ذاتية بمجهود فردي شبه خالص باعث على الإلهام.
لم تتوقف طموحات ويا عند حدود منح بلده شرف دخول سجل الخلود الكروي عبر إنجازات أحد أبنائه الفردية، بل سعى جاهداً ومخلصاً ليمنح ليبيريا شرف المشاركة في بطولة كأس العالم، لكنه تعثّر في تحقيق هذا الحلم بعد أن كان قاب قوسين منه خلال التصفيات التي دعم خلالها منتخب بلاده الوطني مموّلاً ولاعباً ومدرّباً في الوقت نفسه.
يتجاوز إنجاز جورج ويا إذن بتلك الخصوصية سائر اللاعبين ذوي الأصول الإفريقية الذين لم يتألقوا عالمياً إلّا عبر منتخبات أوروبية منحتهم هويتها مثل أوزيبيو دي سلفا، على عظمة إنجاز البرتغالي موزمبيقي الجذور وإلهامه لذوي الأصول الإفريقية. كذلك، يتجاوز ويا – بصفة عامة وليس نسبة إلى المحيط الإفريقي فحسب – كثيراً من اللاعبين الذين أفلحوا في التألق مع أنديتهم المحلية ومنتخباتهم الوطنية تألقاً باهراً ولكن فشلوا في تحقيق إنجاز يُذكر عند انتقالهم إلى الأندية الأوروبية الأكثر حدة في التنافسية، مثلما حدث مع التركي هاكان شوكور وأدائه المتواضع نسبياً مع كل من تورينو وإنترميلان وبارما في إيطاليا، ثم بلاكبيرن روفرز الإنجليزي، وذلك قياساً إلى تجلياته الاستثنائية مع منتخب بلاده وعملاق الأندية التركية غلطة سراي.
ليس غريباً أن يفتقد الأسطورة الإفريقي الأبرز في كرة القدم المشاركة في أكبر بطولات اللعبة على الإطلاق، وعليه فمن الطبيعي أن يعتبر مشاركة ابنه تيموثي في مونديال 2022 تعويضاً نفسياً مُرضياً أسوة بما يشعر به الآباء تجاه إنجازات أبنائهم في مواقف مماثلة بصفة عامة وليس على صعيد كرة القدم وحدها. أحرز تيموثي ويا هدفاً ضد منتخب ويلز في المونديال، ولا يزال المستقبل أمامه طويلاً لمزيد من الإنجازات على قدر موهبته وطموحه. ولكن لا يبدو أن مقدّمات الابن في عالم كرة القدم تبشّر بنتائج على شاكلة إنجازات الأب الخارقة، ما خلا المشاركة الي أثلجت صدر أبيه في كأس العالم، والتي يرجع الفضل فيها على كل حال إلى الولايات المتحدة الأمريكية وليس إلى مجهود فوق العادة للابن على غرار أيٍّ من إنجازات أبيه الخارقة.
في كتاب “صناعة اللوم: المساءلة ما بين الاستخدام وإساءة الاستخدام”، ترجمة للأصل الإنجليزي The Blame Business: The Uses and Misuses of Accountability، الصادر ضمن مشروع “كلمة” بهيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي سنة 2018، يقول ستيفن فاينمان Stephen Fineman: “المشكلة مع اللوم لا تكمن في اللوم بحد ذاته، ولكن في ليّ عنقه، وسوء استخدامه. فغالباً ما تتفوق الأنانية على الغيرية في لعبة إلقاء اللوم، فالفخر وحب التملك وتعظيم الذات هي نزعات دائمة لدى الإنسان. وقد يُستغل اللوم كأداة سياسية لضمان السطوة أو كسب السلطة؛ يمكن تسخيره لتشويه سمعة قومية أو عرق أو جنس أو دين أو إثنيّة. ويمكن المبالغة فيه لتسجيل نقاط الاتهام. حين يُوجّه اللوم بصورة انفعالية، يصبح بمقدوره تدمير الزواج، وإنهاء الصداقات، وتقسيم الدول. إنه منبع لا ينضب لسوء النية. من السهل جداً أن نلجأ إلى لغة اللوم. فلوم شخص أو جماعة يبسّط الأمور، وهي تتجاوز التعقيدات التي يتعيّن الخوض فيها للتوصّل إلى حل للمشكلة. ومع ذلك، يفقد اللوم القدرة على التمييز عندما ينتشر بحرية في شؤوننا اليومية، يرمي المسؤولية على الآخرين ويخلق حالة دفاعية، فنبرّئ أنفسنا ونغلق الباب أمام فرص التغيير أو التحول. وعندما يلوم الجميعُ الجميعَ تغدو الخيارات محدودة، تتجاوز مجرّد استمرار الحقد أو الصراع”.
مع هذه اللمحة لمشكلة اللوم في كتاب ستيفن فاينمان يتضح، كما يُفترَض أن يكون معلوماً بالبداهة رجوعاً إلى جذور انفعالاتنا النفسية وتفاعلاتنا الاجتماعية على كل صعيد، أنه لا مناص من أن يتعرّض أيٌّ منّا للّوم، ليس بوصفه ضحية فقط أو جانياً فحسب وإنما الاثنين معاً بالضرورة بدرجة أو أخرى. بالنسبة لجورج ويا، من السهل أن يظل بمنأى من اللوم إلى حدّ بعيد على صعيد الإنجاز الرياضي المتوقع منه ابتداءً حتى لو كان قد اكتفى ربما بنصف ما أنجز تعلّلاً بضعف الموارد المتاحة في بلده الذي – كما أشرنا ويشار مراراً في هذا المقام – لا يمتّ إلى كرة القدم الإقليمية، دع عنك العالمية، بصيت ذي بال.
ولكن في المقابل، ليس من السهل، بل في حكم المستحيل، أن ينجو أسطورة ليبيريا الرياضية من لوم بني جلدته وقد أصرّ على خوض غمار الحياة السياسية من أرفع مناصبها في بلاده. أخفق ويا في الانتخابات الرئاسية مرتين ثم فاز في المحاولة الثالثة وعاد مؤخراً ليعلن نيّته الترشح لولاية أخرى. تُرى هل سيضيف الظهور السياسي البارز لجورج ويا إلى مجده – الذي كسبه رياضيّاً – على المدى البعيد أم سيكون خصماً عليه؟ يبدو أن أسطورة ليبيريا يملك من الجرأة والطموح ما لا يجعله على كل حال يتوقف طويلاً عند سؤال من ذلك القبيل.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي ([email protected])