حرفة النقد
خاص – إعلام دوت كوم
سألني كثيرون، بخلاف تلامذتي في ورشة الكتابة الإبداعية، حول مفهوم “النقد الدرامي” وكيف “نكتب نقداً” عملاً درامياً بشكل منهجي، وما هي الأسس التي نتكئ عليها كي “نكتب” ما يشبه النقد الدرامي العملاني لعمل درامي ما سواء كان مسلسلاً، فيلماً، أو مسرحية.
في البداية وبحسب ديفيد برتش في كتابه حول الدراما والنقد: “النظرية النقدية والتطبيق” فإن النقد الدرامي لا يقوم على “حبنا” و”كراهيتنا” للأبطال، لصناع العمل، القصة، أو حتّى للصورة النهائية للعمل، وإلا لأصبح هذا النقد “رأياً شخصياً” فحسب، وليس “نقداً”. يقوم النقد أساساً على منهجية وبحث وحرفة، لا على “رأي شخصي” “معجب أو كاره”.
في البداية، يقيس الناقد العمل بين يديه على بساطٍ كبيرٍ من الضوابط والنقاط:
1- البيئة المحلية
يجب مراعاة البيئة المحلّية باعتبار أنّها المصدر الرئيسي للعمل. معنى “البيئة المحلية” أننا لايمكننا أن نحاسب فيلماً فيتنامياً كما نحاسب فيلماً أميركياً أو هندياً أو مصرياً. عمر الدراما الفيتنامية قصير نسبياً بالمقارنة مع المدارس الأخرى. من هنا فإنه على الناقد أن يكون “متساهلاً” مع بيئةٍ أقل خبرةً؛ هذا لايعني ألا يكون هناك ضوابط وأدوات قياس. بمعنى أنه حين المقارنة بين عمل “لبناني” وآخر “مصري” لايمكن أن تكون “مقاييس النقد” هي ذاتها، فالدراما المصرية لديها مئات الأعمال سنوياً، كما لديها “مدرسة درامية خاصة بها” وفوق هذا “مئات النجوم المهرة والمحترفين” فضلاً عن “هدوء اجتماعي/اقتصادي/أمني”.
وهنا أكرر، لكن هذا لايعني “نهائياً” ألا تكون هناك ضوابط، وإلا لانتفى النقد وفقد مصداقيته. من هنا يلاحظ الجمهور أنَّ المسلسلات “عبر العربية” تعاني من تأرجح وترنح في مستوى ممثليها، فالممثلون من دول لا مدرسة درامية لديها كما لا “خبرة إدائية/ ثقافة درامية” فيها يعاني مؤدوها أمام زملائهم/نظرائهم من دول ذات مدارس “متينة/قوية” إدائيا ً كمصر وسوريا مثلاً.
2- لمن يتوجه العمل
قبل مفهوم “القياس” والدخول إلى منطق “قياس” العمل الدرامي أمامنا، يجب أن يكون سؤالنا الرئيسي كنقّاد: “لِمنْ يتوجه العمل؟” في الحقيقة هذا واحدٌ من أهم الأسئلة التي يجب على “الناقد” الإجابة عليها، إذا كان يهتم فعلياً بمنطق “أواليات التحليل”. مثلاً تتوجه معظم المسلسلات المصرية إلى “الجمهور المصري” دون سواه، فتستخدم “اللهجة المصرية” وأحياناً “الثقيلة” منها (كالصعيدية أو سواها) دون سواها في أعمالها وهذا توكيدٌ على “الجمهور المستهدف”.
وحتى الأعمال الكوميدية المصرية والتي يفترض أنّها “خفيفة” تستخدم كوميديا الإيفيه الذي قد لايفهمه الشارع العربي أو لايدركون المعنى “الخفي/المضحك” خلفه. هذا الأمر بديهي ذلك أنَّ “الجمهور” المصري كبير ومؤثر ويتابع. هذه النقطة لا تعني نهائياً أنَّ صنّاع الدراما المصريون لايريدون التوجه “عربياً”، لكنهم في عقلهم الباطن يعرفون بأنَّ عملهم في النهاية موجه “لمصر وجمهورها” قبل أي أحد. طبعاً يمكن مراقبة الأعمال الخليجية أو المغاربية أو العراقية التي تستخدم لهجاتٍ لا يفهمها إلا أهل البلد أنفسهم. إذاً بماذا يفيد “فهم لمن التوجه”؟ يفيدنا في أنه حينما “نقيس” نعرف بأن هذا العمل غير “موجه” للجميع: يعني مثلاً يمكن الإشارة إلى أنَّ مسلسل “تحت الوصاية” على الرغم من عموم قضيته، يتوجّه للجمهور المصري والمجتمع المصري، صحيح أنه يمكن للجمهور العربي متابعته، لكنه أساساً “كُتِبَ” و”صُنِعَ” ليقول شيئاً في المجتمع المصري لا أي مجتمعٍ آخر؛ بالتالي إن “لم يفهمه” أو يتأثر به مجتمعٌ آخر ذلك أمرٌ لا يعنيه.
من هنا يعاني بعض النقاد “الجدد” (أو لنقل أصحاب الرأي) في نقد المسلسلات الخليجية أو المغاربية مثلاً خلال مشاهدتهم لتلك المسلسلات، ويشيرون إلى أن “لهجتها” صعبة؛ هذا خطأ “مبتدأين”؛ فالمسلسل المقصود غير موجه أساساً حين صنعه لكل الجمهور العربي، هو “منحصر” التوجّه وإلا لاستخدمت “لهجةٌ” بيضاء عامة والتي لايستخدمها صنّاع المسلسلات المحلية-عادةً- لأنها “تفقد” العمل قوته وصدقه وصدقيته في الشارع الموجه له.
3- النص
في البداية أهم ما في أي عمل درامي هو “النص”. يأتي الخطأ الشائع لدى معظم المشاهدين اهتمامهم “بنجوم العمل”، الممثلين أو المخرجين وسواهم من الشخصيات الشهيرة.
غالباً ما لايعرف “المشاهد” اسم “كاتب العمل” أو حتى “لايهتم به” إلا حينما يصبح “نجماً”. بمعنى يعرف الجميع اليوم أسامة أنور عكاشة في مصر، أو ممدوح حمادة في سوريا، أو هبة مشاري حمادة في الكويت وسواهم كونهم أضحوا “نجوماً” تكتب أسماءهم قبل “ممثلي أعمالهم ونجومها”. درامياً، منطقياً، وضبطاً، إن كاتب العمل الدرامي هو أساس العمل وبنيته وقوته والشخص خلف “السبك المباشر لأي قصّة وإخراجها بالشكل المناسب”. يعني مثلاً هذا العام بذلت منّة شلبي –على عادتها- جهداً كبيراً لتقديم قصّة مختلفة في “تغيير جو”، لكن النص المنهك وغير المضبوط جعل المسلسل يفشل في تقديم شيءٍ يدعم إداء الممثلة الماهرة. نفس الأمر ينسحب على مسلسلي “مربى العز” و”زقاق الجن” السوريين أو حتى “سره الباتع” المصري، الذين ضما نجوماً كباراً ومخرجين مهرة (رشا شربتجي وخالد يوسف) ولكن ضعف “النص/القصة” جعل المسلسلان يفشلان.
النص المكتوب، كما الحوار، كما معظم “شخصيات” العمل هو مهمة “صانع العمل الرئيسي: الكاتب”. يعني تعاني مجتمعات الدراما “الناشئة حديثاً” كالدراما في بعض الدول الخليجية أو في لبنان مثلاً من عدم وجود “كُتاب” يراعون الأمور البديهية الرئيسية: عدم تسطيح الشخصيات في العمل؛ مثلاً “البطل يعمل في شركة”، هنا على الكاتب الإجابة على كثيرٍ من الأسئلة التي “تعطي الشخصية أبعاداً وتحميه من التسطيح”: ماذا يعمل في الشركة؟ ما هي وظيفته بالضبط؟ الشركة أصلاً بماذا تعمل؟ هي شركة ماذا؟ هل للبطل صفات جانبية؟ هل يأخذ دواءاً؟ هل لديه سيئات؟ حسنات؟ كل هذه التفاصيل والتي تبنى عبر skeleton key (كما في مدرسة الكتابة الإبداعية)، لا تكون موجودة في معظم الأعمال التي يكتبها كتابٌ غير “مهرة” أو مبتدؤون.
هذا التسطيح للشخصيات أو للأبطال أو للمَشَاهد يتنبه لها متابعوا العمل هذه الأيام ويتداولونها خصوصاً مع وجود السوشيال ميديا التي باتت أشبه بالمنبر الذي يقول عليه “الجمهور” رأيه (وإن كان موجهاً ومسيطراً عليه في أحيانٍ كثيرة).
4- المخرج
للمخرج الحصّة الأكبر من القوة داخل العمل الدرامي؛ لذلك نجد عدداً كبيراً من “النجوم” يفضلون الاعتماد على “مخرجين” ضعيفي الشخصية أو منعدميها خلال تقديمهم لأعمالهم ذات البطولة “المنفردة”. يأتي المخرج في المعتاد دليلاً على “قوة العمل أو ضعفه” وفي المعتاد لايهتم المشاهد العادي بالمخرجين أو من خلف كاميرا العمل، فمعظم الجمهور يهتم بنجوم العمل لا أكثر ولا أقل كما أسلفنا. من هنا فإن “وجود” مخرج قوي، لايعني حصراً في “كادرات التصوير” أو “زوايا الكاميرا” أو “المقاطع الممنتجة”، بل في أكثر من هذا بكثير، المخرج الجيد أو القوي يظهر في “انضباطية” العمل والممثلين في آنٍ معاً؛ ومنع ممثليه من “الإرتجال” وتخريب المشاهد أو “تأليفها” غب الطلب كي تناسبهم وتناسب “خيالهم وطموحاتهم”.
مثلاً بذل سامر برقاوي المخرج السوري جهداً كبيراً في مسلسل “الزند: ذئب العاصي”، نفس الأمر ينسحب على محمد سامي في “جعفر العمدة”، وبالتأكيد لاننسى محمد شاكر خضير في “تحت الوصاية” وكُثرٍ غيرهم فيما فشل كثيرون في السيطرة على أعمالهم أو إخراجها كما ينبغي. يظهر جهد هؤلاء في “انسيابية” المشاهد، وسهولتها، فضلاً عن ممثلي أعمالهم بشكلٍ مناسب.
وجود مخرج يجيد امساك أبطاله والعمل بشكل جيد يعطي الممثلين فرصة أكبر للإبداع، ويبعد “المشاكل” اليومية التي تحدث في “كواليس” أي عمل درامي، ويجعل الجميع يركّزون بعيداً عن الأخطاء. سيرفض مخرج جيد وبشكل قاطع وجود “ابتسامة هوليوود” الشهيرة على “أسنان” بطلة تؤدي دور “فقيرة” في أحد الأعمال الدرامية هذا العام، أما وجود مخرج “ضعيف” سيعتبر أن الأمر “مسموح” و”سيمر” لأنه يخشى من “اعتراض” هذه المؤدية/البطلة عليه بالتالي خسارته “للعمل” ورميه خارجه، وهكذا.
وكما أشرنا، يحب “النجوم” في أعمالهم وجود مخرج “يخشاهم”: “يمرر” لهم مايريدونه، فيرتجلون وينسون الجمل، وأوقات التصوير، وحتى “التنسيق” مع زملائهم وقس على ذلك.
5- الممثلين
نعم، يأتي ترتيب الممثلين في “أدوات القياس الدرامية” في المرتبة الخامسة. يبحث الجمهور عن “النجم”، بينما يبحث الناقد فعلياً عن كل ما سبق ليصل فيما بعد إلى “مؤديي” العمل. هنا على الناقد أن يرتدي “زياً عقلياً”(thinking pattern) “حاداً ومحايداً” في آنٍ معا.
بمعنى كمشاهد يمكن أن يكون الناقد عاشق لممثل أو ممثلة معينة، هذا لاينفع هنا، وإلا لصار العمل النقدي كما هو اليوم في معظم “المطبوعات والمواقع العربية”، يكون العمل سيئاً للغاية، لكن “الممثلة/الممثل” صاحب العمل يكال له المديح ويحكى عنه بجمل “تفضيل” من نوع “أعظم/أجمل/أروع/أكبر” من قبل “أشخاص” إما يحبونه أو “تحصلوا” على مكسبٍ منه، والذي أحياناً لايكون مادياً، يكون معنوياً، فبعض الصحافيين تعنيهم مجرد “التفاتة” أو “شير” أو كلمة من “نجمٍ” ما. لايستطيع الناقد أن يقع فريسة هذه المشاعر، عليه أن يكون محايداً بكل ما أوتي من قوة. طبعاً ذلك لا يتأتى من خلال يومٍ أو يومين، بل من خلال الخبرة، في البداية سيغوص في مشاعره ويرفض أن ينتقد أياً ممن يعجبونه، لكنه سيتعوّد بعد ذلك وسيقدر. النقطة التالية هي الأهم: افتراضياً، يجب على الناقد أن يفترض أن المؤدي أمامه “فاشل” حتى يثبت له أنه “أدى” كما يجب.
قد يبدو الكلام قاسياً وغير لطيف: بالمنطق إذا “أُخِذَ” الناقد بفتنة إسم الممثل أو شهرته أو أعماله السابقة فشل في قياسه قبل أن يبدأ. على الناقد أن يشاهد العمل ببطء وتمعن وافتراض أن هذا الممثل غير معروف بالنسبة له وليس له أعمال سابقة وأنه يتعرّف إليه الآن. هنا عليه أن يشغل “سكين الناقد” بداخله ليعرّي الإداء الدرامي ويكتشف عدّة الممثل وحرفته. مثلاً هالة صدقي في مسلسل “جعفر العمدة” بدأت شخصية “مستفزة” و”مزعجة” لكنها سرعان ما أصبحت “شخصية محببة” نظراً لأن شخصيتها هي “شخصية تعودية” بمعنى أن المشاهد “ينمو” معها خلال الحلقات.
أنس طيّارة في مسلسل “الزند: ذئب العاصي” بدا كما لو أنه ولِدَ في هذا العمل من جديد كمؤدي؛ غيّر شكل الخارجي، أضاف وزناً وعضلاتاً لجسده الضعيف المعتاد، نزع نظاراته المعتادة من أعماله السابقة، حركة جسده المعتادة المترددة غيّرها كي تتناسب مع شخصية “نورس” شرير العمل، يضاف إلى هذا “قلقه” وشعوره بالرغبة في الانتقام من والده التي تظهر في كل “سلوكاته” خلال العمل. كاريس بشّار في “النار بالنار” تستخدم حركة جسدها في كل لحظة لتثبيت أنها من بيئة “شعبية فقيرة”، تفتح “السكينة”(أو كما تسمى محلياً “الموس الكباس”) باحتراف، تستخدم كلمات ثابتة كمحطات كلام: “شو هاد؟” “شلون” هذه المحطات الكلامية جزءٌ من “عدّة الممثل، أدواته وحرفته” وقلما يعلّمها له أحد، سواء الكاتب أو المخرج حتى.
طبعاً يمكن الحديث مطوّلا حول هذه الأمور الخمسة الرئسية والأوالية في عالم “النقد الدرامي”، لكنها محاولة للإجابة عن السؤال الذي يخطر في بال جميع مشاهدي الدراما في العالم العربي، ولربما هي محاولة أعمق لبناء جسر بين المشاهد وبين النقاد وصنّاع الأعمال أنفسهم. فأن يفهم صنّاع الأعمال أن مشاهديهم كما النقاد يعرفون “كيف يصنع العمل” و”كيف يقاس” يجعلهم “متنبهين” حال العمل، وراغبين في تجنّب الأخطاء الواضحة والعبثية التي ظهرت –وكثيراً- هذا العام.