شهرة اللاعب وشهرة النادي وشهرة المنتخب الوطني، بل حتى شهرة البلد بأسره استناداً إلى صيت رياضي كروي مخصوص، ليست بدعاً في عالم الشهرة من جهة تداخل عوامل عديدة ومعقدة في تشكيلها، وذلك بحيث يتجلّى الحظ بوصفه أبرز تلك العوامل، أو لعله العامل الذي يختصر “لوغاريتمات الشهرة” كما عرضنا لها في الكتاب الذي يحمل ذلك العنوان بقدر من الإسهاب والتفصيل.
يتمتّع الحظ بنصيب طاغٍ من التأثير ليس على صعيد الشهرة فحسب وإنما في كل نواحي الحياة، حتى إنه يمكن القول بأن الحظ هو المؤثّر الأوحد على إنجازاتنا ومصائرنا وذلك بإلقاء نظرة أعمق وأشمل للمراد بالحظ تتضمن طريقة عمل المؤثرات على إنجازاتنا مما يقع بعيداً عن سيطرتنا المباشرة بالإضافة إلى قدرتنا على مواصلة الإنجاز بتأثير عوامل هي بدورها بعيدة تماماً عن قبضتنا، والأهم مطلقاً من بين كل تلك العوامل والمؤثرات هو حظنا ابتداءً من الإرادة بكافة أشكالها وأبعادها.
ونحن نبحث عن أسباب الشهرة، سواء مع كرة القدم أو غيرها، إنما نبحث في الغالب عن العوامل والمؤثرات التي شكّلت حظ الشهرة، وأرجو أن يجوز التعبير.
شهرة أيٍّ من اللاعبين إذن تحكمها ظروف متداخلة، لعل أبرزها العصر الذي ظهر فيه اللاعب بكل ما يعتمل في ذلك العصر من مؤثرات ربما من أهمها الطريقة التي تنظر عبرها الجماهير إلى اللعبة وتضع معايير التميز فيها خلال ذلك العصر.
الأمريكي بيب روث George Herman “Babe” Ruth أحد أعظم لاعبي البيسبول على مر العصور، تقول عنه ويكيبيديا العربية: “يُنسب إلى روث تغيير قواعد لعبة البيسبول نفسها. وترجع زيادة شعبية اللعبة في عشرينيات القرن الماضي إلى تأثير روث عليها. سطع نجم روث فيما يسمى بـ”فترة الكرة الحية” live-ball era، فقد أدى اهتزاز مشيته إلى زيادة الدورات الكاملة، مما جعل اللعبة أكثر إثارة للجمهور، بل وتسبب أيضاً في تغيير مسار اللعبة نفسها، حيث تحولت اللعبة من مجرد لعبة منخفضة التهديف وتحكمها السرعة، إلى لعبة عالية التهديف. ومنذ ذلك الحين تحول روث إلى أحد أعظم أبطال الرياضة في الثقافة الأمريكية. إن قوة روث الأسطورية وشخصيته الجذابة جعلته أكثر من مجرد شخصية مشهورة فيما يسمى بفترة “العشرينيات الصاخبة” Roaring Twenties. وبجانب البيسبول، اشتهر بيب بحبه للأعمال الخيرية، وأيضاً بأسلوب حياته الطائش”.
“حبه للأعمال الخيرية” لم أجد له سنداً في ويكيبيديا الإنجليزية سوى قصة ظهوره العام مع الجماهير Public Appearances أكثر من مرة لدعم الجهود الأمريكية في الحرب العالمية الثانية. أمّا “أسلوب حياته الطائش” فتُصادق عليه ويكيبيديا الإنجليزية مؤكدة إلى درجة أنه: “بعد تقاعده كلاعب، حُرم من فرصة إدارة نادٍ كبير في الدوري، على الأرجح بسبب سوء السلوك خلال فترات من مسيرته الكروية”.
لم يكن في إطلالة روث ما يمكن وصفه بالمميز الذي يجعله جذاباً في الصُّوَر Photogenic، بل لم يكن قوامه أصلاً يبدو رياضياً بما فيه الكفاية حتى إذا كانت بنيته قوية، وذلك رغم تريّثي في الحكم الأخير هذا، فقد يكون مردّ ما أراه من هيئة روث غير الرياضية وطريقة ركضه إلى طبيعة التصوير المتحرك خلال العقود الأولى من القرن العشرين، لكن سلوكه كان سيئاً بوضوح على كل حال على الأقل خلال فترات من مسيرته الرياضية. برغم كل ذلك لا يزال الرجل باقياً في ذاكرة الأمريكيين بوصفه الأفضل في كل عصور البيسبول (لجملة من الأسباب ضمنها أسلوب ركضه الذي استغربتُه تحديداً) وأحد أبرز العظماء في كل عصور الثقافة الرياضية في الولايات المتحدة الأمريكية.
مقابل بيب روث والبيسبول في أمريكا بدايات القرن العشرين نقف على مثال يمكن وصفه بالمناقض كليةً، وذلك مع ديفيد بيكام في عالم كرة القدم أواخر القرن العشرين وبدايات الألفية الجديدة. فاللاعب الإنجليزي طبقت شهرته آفاق العالم لا إنجلترا وحدها بسبب وسامته الفائقة كما يرى كثيرون وليس لأسباب جوهرية تتعلق بمهاراته أو إنجازاته الصرفة في كرة القدم.
يكتسب الرياضيّون شهرتهم إذن لأسباب عديدة بحيث لا يمكن الحكم قطعاً بشهرة أحدهم مستقبلاً وإنما طرح احتمالات تصيب أو تخطئ، ليس من حيث تحقُّق إنجازات اللاعب عموماً وإنما تحديداً لدى تقييم شهرته كمّاً (مدى الانتشار) ونوعاً (طبيعة ذلك الانتشار).
النجوم من لاعبي كرة الكرة ينعمون بحظ من الشهرة وهم في قمّة عطائهم وتألقهم الكروي يفوق في كثير من الأحيان حظوظ أندادهم المشاهير على أصعدة الحياة الأخرى. وحين يكون الموسم مناسبةً كروية رفيعة، لا سيما كأس العالم، فإنه لا صوت يعلو على أصوات المشجعين يهتف كل منهم بتمجيد أسطورته الخاصة، وتحتل صور اللاعبين وأخبارهم واجهات المنصات والوسائل الإعلامية المختلفة وليست الأجزاء اليسيرة المخصصة من تلك المنصات والوسائل للرياضة في العادة.
برغم تلك السطوة في النجومية، تنحسر أخبار نجوم الكرة – حتى أشد أساطيرها شهرة – بعد اعتزالهم اللعب، وقد يغدو أحدهم محظوظاً إذا كان في وسعه أن يواصل العمل الكروي بقدر محمود من النجاح على صعيد التدريب مثلاً، لكن حتى في تلك الحال لا تعود سطوة شهرته كما كانت وهو في عنفوان تألقه لاعباً، وذلك باستثناء اللاعبين الذين حصدوا من الشهرة وهم مدربون ما فاق شهرتهم وهم لاعبون لتفوّقهم في التدريب بإنجازات استثنائية لم يحققوا مثلها عندما كانت مهمة تنفيذ الخطط التدريبية موكلة إليهم داخل المستطيلات الخضراء.
“شخصية اللاعب داخل الميدان وخارجه” أحد الأسباب المباشرة في تكوين طبيعة شهرة اللاعب، وقد رأينا في مقال سابق تحت ذلك العنوان أنه: “إذا كان المدرب المتميز الناجح يحتاج بجانب قدراته الفنية إلى شخصية “قوية”، بحسب الوصف الشائع إشارة إلى الصرامة تحديداً، فإن اللاعب الذي يطمح إلى أن يكون مشهوراً – بصرف البصر عن طبيعة شهرته – يحتاج بجانب قدراته الفنية العالية إلى صفات مميزة على الصعيد الشخصي (داخل الميدان أو خارجه) أو حتى على صعيد طريقة اللعب”. ولكن افتقاد اللاعب إلى الشخصية المميزة لا يفقده بالضرورة حظاً عظيماً من الشهرة، إذ “يمكن أحياناً لأسطورة الشهرة/الجماهيرية أن تتجسّد بوضوح بعيداً عن امتلاك اللاعب أية سمات فائقة أو مميزة في شخصيته، ولكن شريطة أن يكون في المهارات والقدرات الفنية من التفوّق والتميّز ما يشكِّل تعويضاً مُرضياً لسطوة/تميّز الصفات الشخصية للّاعب داخل الميدان وخارجه”.
في “فلسفة كرة القدم: ما وراء اللعبة” الصادر عن دار العربي للنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 2022، ترجمةً للأصل الإنجليزي Football: The Philosophy Behind the Game ، يقول ستيفن مامفورد Stephen Mumford أستاذ الميتافيزيقيا بقسم الفلسفة بجامعة دُرَ(هـ)ام Durham بإنجلترا: “كل شيء يمكن أن يحدث في كرة القدم، ولا أحد يعرف نتيجة المباراة مسبقاً ما دامت مباراة عادلة. قد تكون هناك أحياناً بعض المباريات التي يجري الاتفاق على نتيجتها مسبقاً، ولكنها تبقى الحالات الوحيدة التي يتم فيها تحديد النتيجة مسبقاً، وبأسلوب فاسد. وفي جميع المباريات الأخرى، يكون الفوز في متناول يد الفريقين. وحتى عندما يلعب الفريق الأضعف مع الفريق الأقوى في أي مسابقة، نعلم أنه لا يزال يمتلك فرصة. ويُعدّ هذا أحياناً من جمال كرة القدم، ففيها مفاجآت. ومن قبل، قال المدير الفني الألماني سيب هيربيرجر Sepp Herberger: الكرة مستديرة والمباراة 90 دقيقة… كل شيء آخر هو مجرد نظرية”.
ومثلما أن كل شيء يمكن أن يحدث في كرة القدم فيما يتعلّق بالنتيجة بغض النظر عن قوة كل فريق وتاريخه وتنبّؤات المحللين الرياضيين رجوعاً إلى ظروف كل مباراة أو بطولة، فإن كل شيء يمكن أن يحدث فيما يتعلق بالشهرة في عالم كرة القدم، سواءٌ شهرة لاعب أو نادٍ أو منتخب أو بلد بأسره. أّمّا بالنسبة لترسيخ شهرة لاعب بعينه مع سبق الإصرار، فالمفارقة أن جزءاً قاسياً من كلام ستيفن مامفورد لا يزال متحققاً في هذه الحالة أيضاً، فقد يتّفق الإعلام على “تلميع” صورة أحد اللاعبين ويبرزه بوصفه النجم الأول، وربما الأوحد، سواء في نادٍ بعينه أو بلد ما أو حتى على مستوى العالم، وذلك من دون التواطؤ بالضرورة على خلفية نظرية مؤامرة، فكثيراً ما يكون الأمر بتحريض “بريء” من “غريزة” البحث عن بطل لتنصيبه وتمجيده، الفعل الذي يبدو أن الإنسان قد جُبل عليه في كل زمان ومكان.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي ([email protected])