يومها كنت طفلاً في السادسة من العمر، أذهب إلى مدرستي في الصباح وأعود ظهراً، وألهو في الأجازات. لم أكن أعرف بدقة ما يجري من حولي من أحداث، إلا أن شيئ ما استرعى انتباهي بعد تحذيري من أن ألتقط شيئاً ما من الشارع قلم أو لعبة أو أي جسم غريب حتى لا يكون عبارة عن متفجرات ألقاها جيش العدو لتنفجر في من يلهو بها من أطفال ! وتم تغطية كل النوافذ الزجاجية بورق الجلاد الأزرق لتكون النوافذ معتمة لا تظهر أي إضاءة داخلية، أضف إلى ذلك ما تسمعه من كلمات متعلقة بالغارة وصفارات الإنذار ومفردة “طفي النووووور” التي كانت تتردد في الشوارع فور سماع صفارات الانذار المتقطعة.
أن تكون تلك هي مفردات الحياة حولك في طفولتك، شيء يدعوا للتأمل، وأن تمنع من الذهاب إلى مدرستك لاشتداد حالة الحرب فيتم تعطيل المدارس إلى أن يأتي النصرفتشعر به في كل وجوه الناس من حولك وتشعر به في كل نفس تتنفسه وفي كل نقطة ماء. كان الانتصار عظيم الوقع فجر في الناس السعادة وإن طالتهم ويلات الحروب من تهجير ودمار أو استشهاد لذويهم. وأصبح النصر هو الأساس الذي نتحرك منه فاكتسبت الشوارع والشركات والمحلات وحتى الأشخاص أسمائهم منه فلا تخلو مدينة في مصر من شوارع باسم شارع النصر أو شركة تسمى بشركة النصر لكذا وحتى ستجد حلواني النصر ، وجزارة النصر.
واليوم وبعد هذا التاريخ بأكثر من أربعين عاماً، لم يعد لذلك النصر طعم أو ذكرى اللهم أنه يوم عطلة رسمية، أقول هذا لأنه تم تغييبه عن عمد على مر سنين مضت وخاصة من بعد 1981 والذي شهد اغتيال السادات في نفس يوم احتفاله بالنصر، فحرص مبارك على إلغاء تلك الاحتفالات ولم يحضر احتفالات عسكرية من نفس النوع بداعي الأسباب الأمنية، وإن كانت شماعة لتغطية ما كان يشعر به مبارك من غيره تجاه نجاح السادات. اختفى الشعور بمعني الانتصار والاعتزاز بالهوية، ويرجع ذلك لعدة عوامل اجتمعت كلها لتهدم الشعور الوطني بانتصار اعاد لنا الشعور بالقوة والقدرة والهيبة بين الأمم.
من العوامل التي أدت لخفوت الزهو بالانتصار ما هو داخلي من استعار الجشعين على حساب الضعفاء، وسطوة أرباب رأس المال المشبوه المصدر والذين لا ليس لهم انتماء إلا لورق البنكنوت، الأمر الذي أدى إلى طغيان المادية البحتة على التعاملات والاهتمامات، وتسلل ذلك السلوك المادي لكل شيء من تعليم وتثقيف وإعلام. تغيير الوعي العام لمجتمع لا يحتاج إلى ذلك وقد تم هذا بجد واجتهاد مدفوعاً بالعوامل الخارجية والتي تنوعت اشكالها من ضغوط سياسية ودولية بحجج منوعة كعدم إزكاء روح العداوة بين الشعوب، وعدم معاداة السامية، وإلا فإن الاتهامات جاهزة. أصبح المجتمع داخلياً يميل إلى الاستهلاك أكثر من أي انتاج بالرغم من توفر أسبابه، وأصبح الانتاج المحلي أياً كان يواجه بعاصفة من السخرية وإحطاط القدر لا التشجيع فلا يباع ولا يتقدم بل يندثر.
حالة تسود الآن هي كره كل ما له علاقة بالتاريخ هدفها محو الهوية وأكرر نعم محو الهوية ومن ثم الانتماء، فلا الشباب يعرف أو يؤمن بما قام به من قبلهم ليجدوا حياتهم كما هي الآن بل يسخر من كل ما سبق بدعوى التحضر والمعاصرة، ويعرب في صلف عن كراهيته للواقع، ولا يرى أنه يجب احترام التاريخ. مصيبة انتجها لنا الإهمال في التثقيف والتعليم الحقيقي، تقع مسؤليتها على كل مسئول اهمل وتقاعس عن واجبه في تعمير العقول وتركها تٌملء بمياه راكدة صدرها لنا الغرب معبأة في زجاجات ملونة.
نسى كل هؤلاء أن أحداً لا يستطيع محو التاريخ أو إنكاره، نسى هؤلاء أن النصر الذي كان من سبعينيات القرن الماضي محفور على أرض سيناء بدماء من ضحوا واستشهدوا، نسوا أن النصر… مستمر.