“تُرى ماذا سيكون مصيرنا من دون انتقام؟ سيقول كثيرون: في أفضل حال. لكن بما أننا حيوانات اجتماعية، فإن الدافع إلى الانتقام لمظلمة يُعَدّ من ألحّ الدوافع البدائية لدى الإنسان، ولسبب وجيه. فالانتقام يتعامل مع كل ما يهدّد رفاهية الفرد، أو أرضه، أو كبرياءه، أو شرفه، أو مكانته، أو هويته، أو وظيفته. كما يدل الانتقام على أن للمظالم ثمناً، ويعيد الأمور إلى نصابها ويضبط السُّلّم التراتبي، وهو ما يتواضع عليه ضمناً الأزواج المتناحرون، والعمال المظلومون، والقبائل المتصارعة أو الدول المتحاربة؛ إنه إعراب لا إعراب بعده عن الذات والمجتمع؛ إنه وقاء وتحذير للآخرين ليبتعدوا؛ إنه العدالة في أوضح معانيها. إذن، في قلب كل منّا طالب ثأر، وإن كان عقلنا يقول غير ذلك”. تلك كلمات ستيفن فاينمَن Stephen Fineman بروفيسور العلوم الاجتماعية البريطاني في مقدمة كتابه “الانتقام: موجز في القصاص” الصادر عن دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي ضمن مشروع “كلمة” سنة 2019، ترجمةً للأصل الإنجليزي بعنوان Revenge: A Short Enquiry Into Retribution.
في سياقنا هذا ننظر إلى الانتقام بوصفه أحد الدوافع البارزة لتحقيق النصر في المسابقات الرياضية، وتحديداً في كرة القدم. وإذا كان الانتقام دافعاً محاطاً بالمزالق والشراك الأخلاقية عند النظر إليه بصفة عامة، وهو ما يتطرق إلى بعضه فاينمن في كتابه، فإن دوره على صُعُد المسابقات الرياضية لا تعتوره الإشكالية نفسها من حيث تأثيره الخالص كحافز لتحقيق النصر، وذلك بعيداً عن تأثير وتداخل العوامل الأخرى التي تتجاوز ما هو أخلاقي والتي نلحظها في المسابقات الرياضية تماماً مثلما نلحظها في سائر أنشطة الحياة.
الانتقام أوضح تأثيراً في المباريات الموصوفة بالثأرية، كمباراة الإياب بالنسبة لفريق مهزوم في مباراة الذهاب ضمن أية بطولة، أو مباراة يخوضها فريق ضد خصم تاريخي ألحق به هزيمة ثقيلة في مباراة سابقة أو أكثر على سبيل المثال. غير أن الانتقام في مباريات كرة القدم تتجاوز دوافعه أحياناً ما هو رياضي خالص ومباشر، فكثيراً ما تختلط الرياضة بالسياسة على سبيل المثال، ليصبح الثأر ليس من هزيمة في مباراة سابقة وإنما تعويضاً عن خسارة سياسية من عيار ثقيل في حقبة قريبة أو ربما بعيدة جداً من تاريخ العلاقة بين البلدين اللذين يمثلهما الفريقان. مهما يكن، يظل الانتقام/الثأر عاملاً قوي التأثير لتحقيق النصر لا تشوبه شائبة أخلاقية إذا ظل بعيداً عن التلوّث بغيره من العوامل المشبوهة ذات الصلات غير الحميدة بالدوافع الأخلاقية التي يتواضع عليها الناس في كل مكان بصفة عامة.
العوامل المؤثرة في تحقيق النصر كثيرة وبالغة التشعّب، فإلى جانب الانتقام الذي يعمل بصورة مؤثرة في مناسبات خاصة كما رأينا، هناك الحماس أو الحميّة بصفة عامة وليس بدافع الانتقام تحديداً. أبرز دوافع “الحميّة الجماعية” هو الوطنيّة، وذلك مقابل إثبات الذات بوصفه دافعاً لـ”الحميّة الفردية” للاعب يريد أن يثبت أنه الأفضل، إمّا لكونه مبتدئاً يطمح إلى ضمان مكانة ثابتة ومتميزة بين لاعبي الفريق، وإمّا لأنه – على العكس – لاعب مخضرم عاصر أكثر من حقبة رياضية ويريد تأكيد أنه لا يزال يصلح للّعب والمشاركة الطويلة المؤثرة في كل مباراة، إلى غير ذلك من الأسباب التي يبدو بعضها غريباً كالتفاف لاعبي الفريق حول زميل أسطوري يريدون تتوجيه بلقب عظيم ظلّ ينقص سجلّه الحافل بالألقاب من كل قبيل، وذلك مثلما شاع عن لاعبي منتخب الأرجنتين وأدائهم المستميت أمام فرنسا في نهائي مونديال قطر 2022 من أجل عيون ليونيل ميسي.
مقابل ما سبق، تبدو المهارة والتخطيط والتدريب والالتزام من العوامل الأساسية التي يجب أن تتقدّم ما ذكرناه من عوامل تبدو ثانوية لتحقيق النصر مثل الانتقام والحميّة على اختلاف دوافعهما. ولكن الواقع أن عوامل نراها ثانوية يكون لها دور بالغ إذا أمعنّا النظر في تأثيرها حتى إذا لم نجد لذلك التأثير تفسيراً مرضياً يوافق ما نحفظه من القوالب الجاهزة لقراءتنا للحوادث ومسبّباتها، ليس في ملاعب كرة القدم وحدها وإنّما في كل ميادين الحياة. هنا، أكثر من الانتقام والحميّة على سبيل المثال، يبرز الحظ بوصفه عاملاً بالغ التأثير في نتيجة كل مباراة، وليس في هذا التعميم مبالغة تُذكر عند النظر إلى الحظ نظرة متمهلة وعميقة على نحو أفضل مما نفعل في العادة على أي صعيد لقراءة العوامل المؤثرة في إنجازاتنا في الحياة.
الحظ ليس عاملاً واحداً بل عوامل متعددة، أو ربما – للدقة – هو عامل واحد ولكن بالغ التشعّب. السيطرة على المباراة بصفة عامة حظ، وإذا كان صعباً استساغة هذه الفكرة فإن الحظ أوضح تجسّداً في بضعة مفترقات أشدّ أهمية وحسماً من عمر المباراة بما يفوق مجرد السيطرة العامة عليها. أكثر تلك المفترقات شهرة هو الذي يتجلّى خلاله الحظ في تسجيل/إضاعة ركلة جزاء حاسمة في الوقت بدل الضائع من عمر المباراة، أو عند تسجيل هدف حاسم والمباراة تلفظ أنفاسها الأخيرة بقدم مدافع يريد إبعاد الكرة عن مرمى فريقه فتعانق الشباك.
تتباين درجات الحظ من حيث الشيوع والتأثير، والجماهير على استعداد بصفة عامة لقبول تأثير الحظ عندما يكون مباشراً وموافقاً لما اعتاد الناس تفسيره على أنه “حظ” كالأمثلة التي عرضنا لها منذ قليل. ولكن مظاهر الحظ تشمل الكثير إلى ذلك مما لا يظهر تأثيره بصورة مباشرة بالضرورة، كاختيار حكم المباراة الذي مهما يجتهد في تحرّي الدقة والحياد لا يستطع التجرّد من انحيازاته اللاشعورية، ما يدفعه إلى محاباة الفريق الذي يشجعه أو تربطه به صلة محلية/إقليمية، أو في المقابل التحامل عليه تكلّفاً لتأكيد حياده في مواجهة المتابعين الذين يعرفون هذه الصلة أو حتى في مواجهة نفسه.
تحت عنوان ” خارجة عن السيطرة؟” يقول ستيفن مامفورد Stephen Mumford في كتابه “فلسفة كرة القدم: ما وراء اللعبة” الصادر عن دار العربي للنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 2022، ترجمةً للأصل الإنجليزي Football: The Philosophy Behind the Game ، يقول: “النتائج غير المتوقعة ممكنة في كرة القدم لأن اللاعبين والمدربين يفتقرون إلى السيطرة الكاملة على كل مجريات المباراة. يمكن أن تصيب التسديدة العارضة وتسقط على الخط. يمكن بعد ذلك، اعتماداً على دورانها، أن ترتد إلى الأمام وفوق الخط أو إلى الخلف وإلى الخارج. ولا يتحكم اللاعب الذي يسجل في تحديد أي من هاتين النتيجتين ستحدث… يجب أن نكون واضحين بما نعنيه بالصدفة، لأن هذا يلعب دوراً حاسماً في عدم القدرة على التنبّؤ بالنتائج. دعنا نقول إذن إن هذه الفرصة هي حيث توجد على الأقل نتيجتان محتملتان ومختلفتان بشكل كبير إذ لا يمتلك أي شخص أي سيطرة كبيرة على أي من هذه النتائج التي تحدث في التمريرات الطويلة والركلات الركنية، جميعها عناصر حظ”.
المثير في دور الحظ/الصدفة مع كرة القدم أنه لا يقتصر على تمريرة طويلة أو ركلة ركنية أو ضربة جزاء، بل إنه لا يقتصر على مباراة واحدة يفوز فيها فريق مغمور على آخر عريق. الحظ في كرة القدم يتعدّى ذلك إلى حيث يمكن أن يحرز فريق بعيد تماماً عن التوقعات والترشيحات إحدى البطولات الكبرى (يضرب مامفورد مثالاً لذلك فوز اليونان ببطولة أمم أوروبا سنة 2004). لكن تجليات تأثير الحظ الأبعد عمقاً لا تكمن بالضرورة في إخفاق التوقعات والترشيحات لتكون النتيجة المتحققة لصالح الفريق الأضعف في مباراة ما أو تتويجاً لأحد الفرق الضعيفة بنسخة يتيمة لبطولة ممتدة لعقود طويلة. أثر الحظ الأعمق والأشمل هو ذلك الذي يتجلّى في كل فرصة ضائعة أو متحققة في مواجهة بين فريقين متكافئين لا يعلم أحد على وجه اليقين نتيجتها قبل أن ينفخ الحكم في صَفّارته إيذاناً بنهايتها.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: [email protected]