نقلا عن مجلة “الهلال” فيلم العمال
منذ بدأ التلفزيون المصري تم ربط أفلام بعينها بمناسبات وإجازات قومية محددة، أغلقت الذاكرة الجمعية للمصريين أي احتمالات، ليس فقط لإضافة أفلام جديدة، وإنما لنقد الأفلام التي اعتمدها القائمون على خريطة التلفزيون في مرحلة زمنية معينة بنوايا حسنة في أغلب الأحوال، تطبيقًا للدور الدعائي لوسيلة الإعلام الأكثر تأثيرًا في مصر منذ ستينيات القرن العشرين وحتى عصر السوشيال ميديا.
ساعد على ما سبق عدد القنوات القليل، بالتالي الخيارات محدودة أمام الجمهور، والمشاهدة المتكررة كل عام لنفس الأفلام في نفس المواعيد لم تكن تصيب الناس بالملل، فأنت تشاهد فيلم “رد قلبي” في يوليو من كل عام، وفيلم “وإسلاماه” في رأس السنة الهجرية، و”الأيدي الناعمة” مطلع مايو حيث إجازة عيد العمال؛ أمر لا يدعو للتذمر، فالأفلام مليئة بالنجوم، والأجيال الأحدث تجلس مع الآباء لتشاهد مجددًا، ويستعيدوا المشاهد الأكثر جذبًا للانتباه سواء تراجيديا أو كوميديا.
أحمد مظهر على سبيل المثال باعتباره قاسمًا مشتركًا بين “رد قلبي” و”الأيدي الناعمة”، ستشاهده يعادي ضابط الجيش “علي” متقمصًا شخصية “البرنس علاء” العنيف المتعالي، ثم “البرنس شوكت” في “الأيدي الناعمة” حيث اللطيف المتعالي أيضًا، الذي يستجيب في النهاية للأمر الواقع ويقرر الخروج للعمل.
هنا مفرق الطرق؛ فيلم “الأيدي الناعمة” إنتاج 1963، المأخوذ عن مسرحية تحمل الاسم نفسه لتوفيق الحكيم ليس عن العمّال، وإنما عن ثنائية العمل والكسل، عن قيمة الإنتاج في حد ذاتها، كون أن التلفزيون المصري -أو العربي كما كان يطلق عليه في الستينيات- اختاره لاحقًا ليكون فيلم عيد العمال، فهذا لأنه كان الأكثر تناسبًا للسياسات في ذلك الحين، خاصة أنه يحمل نقدًا مباشرًا لأسرة محمد علي باشا التي تركت الحكم رسميًا عام 1953 بإعلان الجمهورية، التي هي ذاتها من أطلقت التلفزيون في مصر، والتي أعطت العمال حقوقًا غير مسبوقة، بالتالي كان هو الأنسب في ذلك الحين عندما تقرر عرضه لأول مرة في عيد العمال، ثم ظلَّ هو فيلم الأول من مايو لسنوات طويلة.
بالتأكيد هناك أفلام أقدم منه بطلها كان عاملا، مثل “الأسطي حسن” على سبيل المثال، لكنه فيلم اجتماعي شعبي عن شخص ناقم على حياته البسيطة، يتعرض لإغواء من سيدة ثرية تورطه في جريمة، قبل أن ينقذه القدر في النهاية.
أيضًا أفلام أخرى عديدة جمعها محررو الصحف الرقمية تحت عنوان “أفلام عيد العمال” فقط، من أجل تقديم قسم الفن لإنتاج يناسب الذكرى السنوية. على سبيل المثال لا الحصر، اعتبر البعض أن فيلم “الأرض” يناسب عيد العمال، رغم أن الفيلم كله عن صراع الفلاحين مع الباشا، لا يوجد بالفيلم عامل واحد. كذلك أفلام “للرجال فقط”، و”إمبراطورية ميم”، و”مراتي مدير عام”، كلها عن احترام عمل المرأة وأهميته في المجتمع؛ الأول يقول إن المرأة يمكن أن تعمل كمهندسة بترول في منطقة نائية، والثاني والثالث البطلة هي المديرة، سواء الأم الأرمل في “إمبراطورية ميم” أو الزوجة التي تترأس زوجها في “مراتي مدير عام”، لكن أين العمّال والمصانع والآلات في كل ما سبق؟
لا يشغل من يصنفون الأفلام تبعًا لمناسبات معينة أنفسهم بتلك الأسئلة على ما يبدو، ربما لو فعلوا لتوقفوا عن التصنيف أصلا، فالعمل الدرامي بالأساس يجب أن يكون صالحًا للعرض والتلقي في أي وقت، وإلا فقد شرطا أساسيا من أصول الصنعة وتحول إلى محتوى وثائقي.
فيلم “أريد حلا” على سبيل المثال الذي يُنسب إليه تغيير مؤثر في قانون الأحوال الشخصية في عقد السبعينيات، هل من المنطقي ألا نشاهده إلا إذا كانت هناك مناسبة قومية تخص محكمة الأسرة مثلا؟!
“الأيدي الناعمة” فيلم عن أحد أفراد أسرة محمد علي، هاجمته الديون بعد الثورة، تخلت عنه ابنتاه بعد زواج الكبرى من مهندس ميكانيكا من عامة الشعب؛ باختصار عن عاطل بالوراثة يلتقي بعاطل بالثقافة؛ الدكتور المتخصص في حتى والذي يريد أن يعمل فقط في هذا التخصص. كلاهما نموذج صاغه توفيق الحكيم بعناية وحوَّله يوسف جوهر باحترافية إلى سيناريو وحوار أخرجه محمود ذو الفقار في شريط سينمائي بديع لا نمل من مشاهدته، لكنه ليس عن عيد العمال، حتى وإن احترم البسطاء خصوصًا في مشهد “طوبة فضة وطوبة دهب”.
صناع الفيلم في ذلك الحين استجابوا لفكر الدولة، ونجحوا في تحويل مسرحية الحكيم إلى شريط يعبّر عن هذا الفكر، ويطالب الكل بالعمل والإنتاج، لأن المساواة لن تتحقق إلا بذلك، دون أن يغفلوا الجانب الرومانسي والفكاهي والغنائي، الذي أعطى للفيلم مكانته في قائمة أفضل الأفلام المصرية في القرن العشرين.
هل يعني كل ما سبق أن العمال افتقدوا فيلمًا يعبر عنهم طوال أكثر من 120 عامًا هي عمر السينما المصرية، الإجابة قطعًا لا، فهناك فيلم يصنفه الجمهور بأنه كوميدي، يتداولون عبارات وإيفيهات عديدة منه رغم أن بطله نفسه ربما تعامل معه أنه فيلم تجاري بالمقارنة بأفلام أخرى بارزة في مشواره، لكن بعد 30 عامًا على خروج هذا الفيلم للنور يمكننا الآن أن نقول للقائمين على وضع خريطة القنوات المصرية إن “أبو كرتونة” هو فيلم عيد العمال الحقيقي وليس “الأيدي الناعمة”.
“أبو كرتونة” الذي لا يصنفه كثيرون ضمن الأفلام المهمة لمحمود عبد العزيز، كونه يخسر المنافسة بسهولة أمام أفلام مثل “الكيت كات”، و”زيارة السيد الرئيس”، و”إعدام ميت” و”سوق المتعة” وغيرها، ربما يكون الفيلم الوحيد الذي دارت كل أحداثه في مصنع، كتابة أحمد عبد الرحمن وإخراج محمد حسيب، إنتاج 1991، يمكن اعتباره أول صرخة سينمائية ضد الخصخصة التي كانت تطل باستحياء في ذلك الحين، قبل أن تغمر المصانع الحكومية عاما تلو الآخر.
الفيلم الذي يدور حول العامل “أبو كرتونة”، وكيف استغل جهله رئيس مجلس الإدارة الفاسد من أجل تمرير صفقة بيع المصنع واعتباره خاسرًا، يعود ويؤكد أن فطرة العمال هي المنقذ لكل مصنع وكل مشروع وطني، والهجمة المرتدة لأبو كرتونة ورفاقه أنقذت رأس المال الوطني من الضياع، وقام المصنع من جديد صامدًا تجاه الفاسدين.
صحيح أن الفيلم مليء بالمواقف الكوميدية، وأداء محمود عبد العزيز المميز للشخصية وتفاصيلها وقاموسها الخاص، لكنه بكل إنصاف عبَّر عن ما يجري في كواليس المصانع الحكومية في ذلك الحين، وأكد أن الصراع يشتعل كلما انفصلت النخبة وانحازت لمصالحها الخاصة عن الطبقة العاملة المنحازة للقمة العيش القليلة لكنها الدائمة، فيما يسعى المديرون للربح السريع الوفير ببيع ما لا يملكون أصلا.
ربما ساهم التناول الكوميدي الخفيف وعدم نجومية المؤلف والمخرج في عدم حصول الفيلم وموضوعه على المكانة التي يستحقها، وظل “الأيدي الناعمة” ممثلا عن غير حق لعيد العمال، ليأتي هذا الموضوع -بإذنك يارب- ويحاول إعادة الحق لأصحابه كما عاد المصنع لعمّاله في “أبو كرتونة”.