في سبعينات القرن الماضي، ظهر أحمد عدوية في وقت كانت فيه الأذن المصرية معتادة على أن الفن الشعبي هو أغاني محمد رشدي و الفن البسيط هو أغاني عبد الحليم حافظ و فريد الأطرش وشادية و نجاة أما الجرعات الفنية الدسمة فكانت من أم كلثوم و عبد الوهاب. جاء عدوية ليغني عن السح دح إمبو و الزحمة، وقتها قال المثقفون و الصحفيون إنه إندثار للفن المصري و تدهور للذوق العام و نتيجة لسياسة السادات في الانفتاح.
بعدها بثلاثين عاما أصبح يسبق اسم عدوية الفنان الكبير/الأستاذ / المدرسة .
ثم في التسعينات ظهر شعبان عبد الرحيم فقال النقاد نفس ما قيل عن عدوية و دارت الدنيا و ظهر سعد الصغير و عبد الباسط و الليثي و قيل نفس الكلام… ثم جاءت المهرجانات ثم إنتشرت المهرجانات ثم تحولت من أغاني الأفراح لنوع من أنواع تمجيد الدفاع عن النفس و البلطجة في مفيش صاحب بيتصاحب التي نافست عمرو دياب و محمد حماقي على الأكثر مشاهدة في اليوتيوب .
هل ركزت في كلماتها ؟
دنية مواني على الملأ قلوبنا فيها بتنحرق
غلبان وعايش في الغلا مسكين وعشه بينزلق
ومين يحس بالتاني أحلام شبابنا بتتسرق
دنية مواني وناس بتعاني باين في وشوشهم القلق
أنا أحب أغنية مفيش صاحب بيتصاحب لأنها ببساطة تعبر عن الواقع المصري بكل ما فيه من نشاذ..
عرف عالم ألماني إسمه فخنر التذوق الجمالي بأنه قوة النفس التى تجعلها تحب وتكره ما يواجه المرء من أشياء.
تطبيق ذلك على كلمات مفيش صاحب بيتصاحب تجعلنا نفهم ببساطة كيف تسللت بكل هدوء إلى الذوق العام .
مقارنة بسيطة بين كليب مفيش صاحب بيتصاحب و كليب فريق غنائي آخر عميق ثوري هو كايروكي نجد أن مربوط بأستك حققت 740 ألفا و مفيش صاحب بيتصاحب حقق 13 مليون و 740 ألفا . المشاهدات تفسر كل شئ.
كايروكي التي لا يهاجمها أحد بأنها تدمر الذوق العام بكل آلاتها الإعلانية و شهرة أعضائها تغني عن شعر البنت التي فكته من الأستيك في نادي للرقص وسط بشر أقرب للذئاب .
الحقيقة أنهم كعادتهم يريدون العمق في قضية مملة و ليس لها أي أهمية أصلا.
مشكلة أغلب النقاد و الصحفيين أنهم ليسوا من القاع و حتى لو بدأوا من القاع فهم ينسوا سريعا أن وطن فيه ثلاثة إرباع شعبة بالكاد يعيشون لا تتوقع منهم أن ينتبهوا لأن مفيش صاحب بيتصاحب فن ردئ و مطربوه لا يجيدوا العرب و المقامات و يقولون معاني رديئة .
الذوق الفني العام سيرتقي عندما يرتقي المجتمع كله سياسيا و إقتصاديا و إجتماعيا و أمنيا و يومها عندما يغني أحد ما عن أخد الحق بالذراع و عن العيشة المرة سيقابل بكل رفض وكأنه يغني عن حقوق الساموراي الياباني المهدرة .
مصر ليست ساقية الصاوي و الأوبرا فقط مصر كبيرة جدا.
يقول الشاعر خالد تاج الدين على صفحته الشخصية و أوافقه تماما :
” في 50 مهرجان بيتغنى كل يوم .. بس مش أي حاجه بتنجح كده مع الناس .. أوصل للناس بدل ماتقعد تنعي همك على الفيس بوك وتقول ايه القرف ده .. صحيح ايه القرف ده ؟ المهرجان شغال في كل العربيات وكل الافراح وكل البلاد .. اومال مين اللي بيشتمه ؟؟ تعالى هنا بس قولي .. مين اللي بيشتمه؟”
الفن الرائع لن يتحقق سوى بالوصول للناس و الناس لن يحبوا سوى ما يمس حياتهم الطبيعية و بالتالي يجب على الناس أن يعيشوا حياة طبيعية جميلة حتى يتذوقوا فنا جميلا و بالتالي ينتشر و ينجح و يومها سنجد الأوبرا و المسارح مليئة بالشعب الذي سيصرخ بعد كل وصلة … الله يا ست … الله يا مصر.
الفن هو مجرد مرآة للمجتمع .. و ليس العكس ..