رأينا إذن أن لكل بطولة وزمان أبطالهما من الفرق لأسباب تتجاوز مجرد الخبرة أو غيرها من العوامل المادية واضحة التأثير إلى ما لا يمكن الوقوف عليه بدقة من المؤثرات، بحيث يصبح الحظ بمعناه الأوسع هو العامل الذي يستطيع استيعاب كل العوامل الأخرى ما ظهر منها وما بطن بالنسبة لأيٍّ من المتابعين المعنيّين بتحليل أداء الفرق على اختلاف البطولات وتوالي الأجيال.
لا شيء ثابت في الحياة بأسرها وليس في كرة القدم وحدها.. الأمر ليس له علاقة باستدارة الكرة كما في الكلمة الشهيرة التي راجت إشارةً إلى إمكانية حدوث مفاجآت في أيٍّ من البطولات أو حتى في مباراة واحدة خلال عمرها الذي يمتد إلى تسعين دقيقة أو أكثر قليلاً مع الوقت الإضافي وركلات الترجيح.
مفاجآت عالم كرة القدم كثيراً ما تكون من عيار ثقيل فلا تتوقّف عند عكس نتيجة متوقعة لمباراة بين فريقين متقاربين بناءً على الأداء الجيّد لأحدهما خلال الموسم الكروي مقابل الأداء الأقل جودة للفريق الآخر خلال الموسم نفسه، بل تتعدّى المفاجآت ذلك إلى حدّ انقلاب الحال بصعود فرق لم تكن ذات صيت كروي إلى قمة كروية في محيط جغرافي بعينه مقابل هبوط فرق أخرى كانت متسيّدة في المحيط الجغرافي نفسه إلى مستويات متدنية بوضوح. يحدث ذلك مراراً في عالم كرة القدم إلى حدّ أن تحليلات النقّاد الرياضيين لا تغدو ذات قيمة والحال كتلك إلّا بوصفها قراءة لقصة كروية جرت لا تحمل في طيّاتها فائدة مؤكدة لتوقّع ما يمكن أن يحدث في مباراة قادمة، دع عنك توقّع الفائز في بطولة محلية أو إقليمية أو عالمية، أمّا النبوءات المتعلقة بالمستقبل الكروي خلال بضعة عقود من عمر الزمان على أي صعيد فليس ثمة – والحال كتلك – ما يدعو إلى حملها محمل الجدّ مهما تكن الجهة التي صدرت عنها النبوءة الكروية ومهما تكن المسوّغات التي انبنت عليها النبوءة.
في كتاب “كرة القدم اليابانية”، الصادر عن دار هماليل في أبوظبي سنة 2015، يشير المؤلف ريان الجدعاني إلى أن: “تلك الظروف الصعبة التي تعانيها الكرة العربية لا تعني الاستسلام بل على العرب الاستمرار في البحث عن مستقبل جميل في مجال الرياضة وتحديداً كرة القدم التي تعتبر الرياضة الوحيدة التي تسعد شعوبها المسكينة. إذا كانت اليابان تبحث عن كأس العالم 2050 عبر خططها طويلة المدى، فعلى العرب البحث أولاً عن السلام قبل قدوم عام 2050 حتى تكون منتخباتها الكروية على الأقل موجودة في دور نصف النهائي في كأس العالم 2050 بجانب منتخب اليابان المتطور”.
لم يكن أحد حتى أشدّ المتحمسين للرياضة العربية ليجادل كثيراً حول مقولة الجدعاني حينها في العام 2015، ولكن ما حدث هو أنه بعد سبعة أعوام فقط – لا خمسة وثلاثين عاماً – استطاع العرب أن يتواجدوا في الدور نصف النهائي للمونديال بأداء باهر وحضور استحوذ على إعجاب الملايين حول العالم، وذلك دون أن يعمّ السلام العالم العربي بالضرورة كما كان يتمنّى المؤلف في معرض احتفائه بالكرة اليابانية المؤسسة على الخطط من كل مدى زمني ممكن وبافتراض حالة من السلام والاستقرار ينعم بها اليابانيون بما لا يقارن مع العرب، على الأقل في المدى المنظور.
لا يعني ذلك أن الكرة العربية قد تطّورت وفاقت كرة اليابانيين بالضرورة، فباستثناء منتخب المغرب الذي يحل على التصنيف العالمي لمنتخبات الرجال – ساعة كتابة هذا المقال – بالمرتبة الحادية عشرة، يتقدّم المنتخبُ الياباني – الذي يحل على ذات التصنيف بالمرتبة العشرين – جميعَ المنتخبات العربية الأخرى، إذ يأتي منتخب تونس في المرتبة الثامنة والعشرين يليه منتخب الجزائر في المرتبة الرابعة والثلاثين ومنتخب مصر في المرتبة الخامسة والثلاثين.
مفارقات تصنيف الفيفا لا تحصى، والتغيرات التي تطرأ على ترتيب الفرق في التصنيف من حين إلى آخر أكثر مدعاة إلى التأمّل في عجائب ملكوت كرة القدم، فسبحان مغيّر الأحوال الكروية.
ألمانيا صاحبة كأس العالم أربع مرات والأكثر تتويجاً ببطولة أمم أوروبا (مناصفة مع إسبانيا) تحلّ على تصنيف الفيفا بالمرتبة الرابعة عشرة، يتقدّمها المغرب كما رأينا منذ قليل، وتتقدمها سويسرا التي لا تملك صيتاً كرويّاً عالمياً يذكر على مستوى الألقاب والبطولات، كما تتقدمها الولايات المتحدة الأمريكية التي تضمحل إنجازاتها الكروية عالمياً رغم برزوها في إقليم جغرافي مهمّش كروياً يدير شؤونَه اتحادُ أمريكا الشمالية والوسطى والكاريبي لكرة القدم (كونكاكاف).
المجر صاحبة أمجاد كروية مكّنتها من بلوغ المباراة النهائية لكأس العالم مرتين، لكن مركزها الآن في تصنيف الفيفا هو الثالث والثلاثون، تتقدمها السنغال وإيران وويلز وأستراليا على سبيل المثال لمنتخبات لم تحظ بصيت مميّز في أي من الحقب على مستوى العالم.
أمثلة تقلّبات الزمان التي تمكن قراءتها في تفاصيل تصنيف الفيفا المتغيّر باستمرار أكثر بكثير من أن يحصيها مقام عاجل كهذا. يمكن أن يُوجّه الانتقاد لمعيار التصنيف الذي يعمل مسؤولو الفيفا على تحديثه من حين إلى آخر، ولكن مهما يكن النقد الذي يمكن توجيهه لمعيار التصنيف تظل المفاجآت جليّة كل مرّة بما يعكس تبدّل الأحوال في عالم كرة القدم تماماً مثلما يحدث في العالم الأكبر الذي يضمّ الكرة وما سواها من أنشطة الحياة.
عن “إجراءات تصنيف الرجال” يشير موقع الفيفا إلى أنه: “بعد فترة طويلة من اختبار وتحليل أفضل طريقة لحساب تصنيف FIFA/Coca-Cola العالمي، دخل نموذج جديد حيز التنفيذ في أغسطس/آب 2018 بعد موافقة مجلس FIFA. تمت تسمية هذا الإصدار الجديد الذي طورته FIFA باسم “SUM” لأنه يعتمد على إضافة/طرح النقاط التي تم ربحها أو خسارتها للعبة إلى/من إجمالي النقاط السابقة بدلاً من حساب متوسط نقاط اللعبة خلال فترة زمنية معينة كما في الإصدار السابق للتصنيف العالمي. يتم تحديد النقاط التي تمت إضافتها أو طرحها جزئياً من خلال القوة النسبية للخصمين، بما في ذلك التوقع المنطقي بأن الفرق الأعلى في التصنيف يجب أن تُحقق أداءً أفضل ضد الفرق الأقل في الترتيب”.
المعادلة المستخدمة في الخوارزمية لحساب النقاط التي تضاف إلى/تطرح من رصيد الفريق عقب كل مباراة تبدو بسيطة بالفعل ولكن تفاصيلها لا تخلو من التعقيد: P = Pbefore + I * (W – We) ، حيث Pbefore هي نقاط الفريق قبل المباراة، I هي أهمية المباراة (تتراوح بين 5 و 60)، W هي نتيجة المباراة (1 للفوز، 0.5 للتعادل، 0 للهزيمة)، We هي النتيجة المتوقعة للمباراة ولها معادلتها الخاصة التي يدخل فيها عامل متغير واحد هو الفارق في (نقاط) التصنيف بين الفريقين المتقابلين. إلى ذلك هناك بعض الشروط الإضافية المؤثرة في حساب قيمة متغير نتيجة المباراة W بالنسبة للمباريات التي تنتهي بركلات الترجيح وجولات خروج المهزوم.
يبذل المسؤولون في الفيفا إذن جهوداً عظيمة ويصرفون انتباهاً واضحاً إلى التفاصيل الدقيقة من أجل ضمان معادلة منصفة لحساب نقاط تصنيف الفرق. وبصرف البصر عن مدى دقة هذه المعادلة ورضا كل فريق عنها في ضوء التعديلات التي تدخل إلى المعادلة وطريقة حسابها كل مرة، فإن التغيّر المستمرّ لأحوال الزمان الكروية يظل هو الثابت الوحيد الذي تؤكّده كل معادلة وخوارزمية.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])