عمرو منير دهب
تحت عنوان “الحماقة”، في كتابه “فيمَ نفكّر حين نفكّر في كرة القدم؟” الصادر عن دار مدارات للأبحاث والنشر بالقاهرة سنة 2022، يقول سايمون كريتشلي Simon Critchley: “كتب شاوس (Philip Schauss): إن التعصّب والهوس من الأمور الشائعة في كرة القدم. وهما أمران يقفان في منزلة بين الجنون والحماقة دون أن ينزلقا – بالضرورة – إلى أيّ منهما”. يواصل كريتشلي: “يمكننا التعبير عن هذه الفكرة بعبارات تقترب مما قاله غادامير، أعني أنه عندما تطأ قدماك أرض الملعب، ساحة اللعب (Spielraum)، تلج عالم الحماقة المباركة، لتعيش تجربة الانفصال عن العالم اليومي المعتاد، عالم النهايات، عالم الأغراض (die Welt der Zwecke). عندما نتفرّج على كرة القدم ندلف إلى عالم مختلف؛ عالم غاية في التفاهة. تحضرني الآن حماقة المدرب العظيم برايان كلوف الذي استغنى عنه فريق ليدز يونايتد (Leeds United FC) في واقعة شهيرة، وكان الفريق ساعتها بطلاً للدوري الإنجليزي، بعد أربعة وأربعين يوماً من تولّيه تدريب الفريق عام 1974؛ خلفاً لدون ريفي (Don Revie)، المدرب المحبوب صاحب النجاح العريض والعقل الصارم، الذي ترك ليدز يونايتد ليتولى تدريب المنتخب الإنجليزي. كان كلوف قد انتقد دون ريفي علانية عدة مرات؛ إذ أخذ عليه أسلوب اللعب العنيف الذي يعتمد على القوة البدنية، واصفاً إيّاه بالأسلوب القذر والاحتيالي”.
وتحت عنوان “خطيئة الخسارة”، في كتاب “كرة القدم في الشمس والظل” الصادر عن دار ممدوح عدوان بدمشق سنة 2022، يقول إدواردو غاليانو Eduardo Galeano: “كرة القدم ترفع آلهتها إلى الأعالي، وتعرّض معتنقيها للانتقام. فبالكرة بين قدميه، وألوان العلم الوطني على صدره، ينطلق اللاعب مجسّداً الأمة لاقتحام الأمجاد في ميادين معارك بعيدة. وعندما يرجع المحارب مهزوماً فإنه ملاك ساقط. في عام 1958، ألقى الناس في مطار إيزيزا في بوينس آيرس قطعاً من النقود على لاعبي المنتخب الأرجنتيني الذين أدّوا دوراً سيّئاً في مونديال السويد. وفي مونديال 1982، أخطأ كازيلي في ضربة جزاء، فجعل الناس عيشه مستحيلاً في تشيلي. وبعد عشر سنوات من ذلك طلب بعض اللاعبين الإثيوبيين من الأمم المتحدة منحهم حق اللجوء بعد خسارتهم 6/1 أمام مصر”.
وفي كتاب “حروب كرة القدم”، الصادر عن دار اكتب للنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 2019، يقول ياسر ثابت: “خاضت دولٌ حروباً دامية بسبب كرة القدم. ويتذكّر العالم حرباً استمرّت 100 ساعة قبل 40 سنة بين دولتين جارتين في أمريكا الوسطى هما هندوراس والسلفادور وانتهت بكارثة: أكثر من 4 آلاف قتيل، معظمهم مدنيون، ومعهم 10 آلاف مشوّه و120 ألف مشرّد، ودمار مئات البيوت والمنشآت التي تزيد قيمتها اليوم على ثمانية مليارات دولار، وكله بسبب شرارة صغيرة من كرة مطاطية تقاذفتها الأقدام فوق عشب يوحي لونه بالسلام”.
ما سبق بضعة أمثلة على الحماقة والألم والعنف مما يمكن أن تتسبّب فيه كرة القدم، أمثلة تتباين من طريقة لعب عنيفة لمدرب وانتقاد زميله له، إلى إنزال اللاعبين من مرتبة الأبطال الشعبيين إلى ما يشبه رميهم بتهمة الخيانة العظمى، وصولاً إلى إشعال حرب مدمرة – وإن تكن قصيرة الأمد – بين بلدين متجاورين.
تلك أمثلة مختلفة ومعدودة للغاية كما هو واضح على جوانب أكثر قتامة – بأشكال متباينة – للّعبة الأكثر جماهيرية في العالم، أمثلة تتعلق بالمدربين والمشجعين وحتى مؤسسات الدولة الرسمية، أمّا ما لدى اللاعبين في السياق نفسه مما يكشف عن الحماقة والعنف والعدوانية فبدوره أكثرُ انتشاراً وأشدّ تبايناً كمّاً وكيفاً كما يعرف الجميع وبما لا يحتاج إلى تفصيل.
لماذا إذن شاع مصطلح “الروح الرياضية” وكلُّ مَن يمتّ إلى الرياضة بصلة – كما نرى مع أكثر الرياضات جماهيرية – لا يبدو متسامحاً مع الخسارة إلى حدّ عدم التورّع عن اجتراح أشدّ أشكال العنف دموية إذا اقتضت الهزيمة بحسب تحميلها من المضامين المخزية نفسياً أو اجتماعياً أو وطنياً لدى الفريق المهزوم؟
كل الألعاب الرياضية هي منافسة بين متقابلين (فردين أو فريقين) يطمح كل منهما إلى هزيمة الآخر، وباستثناء المواجهات الوديّة أو الاستعراضية، فإن كل المسابقات والبطولات الرياضية تقام بهدف تتويج فائز واحد وخروج بقية المتنافسين مهزومين بدرجة أو أخرى بحسب ترتيبهم خلف المنتصر. وإذا كان الفوز لا يتحقق إلّا بمجهود كبير ضروري للتفوّق على الخصوم، مجهود ذهني وبدني ونفسي مرتبط بقواعد جماهيرية وموارد مالية ومتبادل التأثير مع العديد من الأبعاد الاجتماعية، فإن من الطبيعي أن تغدو للفوز المتحقق مع تلك المؤثرات نشوة عارمة، ومقابل ذلك من الطبيعي أيضاً أن تكون للخسارة غصّة بدرجة أو بأخرى لا يمكن إغفالها. ربما كان من غير المنطقي إذن أن يُطلب من مشجّعي الرياضة والقائمين عليها ومن اللاعبين تجاهل مرارة الخسارة والتصرف على نحو مثالي إلّا إذا لم يكن للخسارة تأثير يُذكر من الناحيتين المعنوية والمادية في إطار المسابقة التي تندرج ضمنها المباراة وخارج ذلك الإطار على السواء بحسب تداعيات المسابقة/البطولة اجتماعياً أو حتى سياسياً على سبيل المثال، ونادراً ما يكون الأمر كذلك بحيث يخرج المهزوم بخسارة لا يمكن أن يُعيَّر بها على أي صعيد.
يبدو أننا حمّلنا الرياضة ما لا تطيق، وما لم تزعمه لنفسها ابتداءً على الأرجح، حين أشرنا إليها بوصفها تحمل الروح المثلى من بين سائر أنشطة الحياة. فلو كان مبعث الصورة البلاغية في نسبة الروح المتسامحة إلى الرياضة هو القدرة على تقبّل الخسارة دون تشنّج والجلوس في طاولة واحدة مع الخصم خلال أعنف المواجهات دموية – بالمعنى الحرفي – ثم مواصلة التعامل بعد انقشاع المواجهة الحامية في سلاسة بالمصافحة والقبلات والابتسام، لو جرى الأمر على ذلك القياس لكان الأولى بالتداول تعبير “الروح السياسية”.