“إن الولاء الحقيقي ليس شيئاً ساكناً، وكما شاهدنا بالفعل، إنه ينمو ويتطوّر مع الشخصية. يجب إعادة اكتشافه والشعور به من جديد كل يوم، حيث إنه في جوهره نتيجة للمعركة الداخلية بين القيم المتنازعة التي يسعى الإنسان من خلالها إلى الوصول إلى قيمه وولاءاته المعينة. وحينما يُجبَر إنسان ما على القسم على ولائه حتى وإن كان يشعر بأنه بالفعل قابع في أعماقه، فإن الإكراه من الخارج يعني أنه يجب أن يتخلى عن حقه الشخصي في ترجيح القيم والرجوع إلى مبادئه الشريفة. لا يهم إن كان القسم تعبيراً عن مشاعره الحقيقية أم لا، فعنصر الإجبار الكامن وراءه له تأثير موهن نفسياً على الإنسان الذي يقع تحت وطأته. ربما يبدو هذا غريباً من الوهلة الأولى، لكن تشابهاً بسيطاً يوضح الأمر: مثلاً الرجل الذي يحب زوجته لا يحتاج إلى أن يقسم لها على حبه باستمرار، بل يظهر هذا في أفعاله؛ لكن إذا أصرّت على أن يقسم لها فإن إصرارها في حد ذاته يعني ضمنيّاً أنها تشك فيه، مما قد يجعل الأسئلة تموج في عقل زوجها ويبدأ في الارتباك حيال ما يعتقده حقّاً”.
يواصل جوست ميرلو Joost Abraham Maurits Meerloo الطبيب والمحلل النفسي الأمريكي هولندي الأصل في كتابه “اغتصاب العقل” الصادر عن مؤسسة “صفحة سبعة” للنشر والتوزيع بالجبيل سنة 2021، ترجمةً عن الطبعة الإنجليزية The Rape of the Mind، يواصل: “في كل من طلب اليمين وأخذ اليمين، نعمل على تخليد ذلك الوهم السخيف بأن الأعداء يمكن درؤهم عنّا من خلال نظام عجلة الصلاة. والحقيقة أن الخونة والمخربين المتعمدين هم تحديداً من لا يخافون من ستر دوافعهم وإخفاء نواياهم خلف الصيغ الموصوفة. كما أنهم لا يخشون من تهمة شهادة الزور، ولا يشعرون بالتردد في توقيع اليمين إذا ما أتاح لهم فعل كذا وكذا. بالنسبة إليهم تكون الكلمات واليمين مجرد أدوات غير ملزمة أخلاقياً. الأهم من طلب الولاء هو طلب النزاهة واتزان الشخصية ونضج الأهداف والدوافع”.
في الواقع ثمة الكثير في كتاب ميرلو مما يغري بالاقتطاف لعمقه وأصالته في مقام الحديث عن الولاء ونقيضه الخيانة، ولكن نختم الاقتطاف عن “اغتصاب العقل” بالعبارة التالية التي تشكّل على الأرجح مدخلاً مناسباً وجميلاً للمراد بالولاء في سياقنا هذا: “إن الإنسان في حاجة إلى الولاء للذات أولاً، وهذا يتضمّن الحق في أن يكون نفسه”. بذلك تحديداً حسم على الأرجح لاعبو المنتخب المغربي الذين شاركوا في المونديال الأخير الحيرة الكامنة في اختيار المشاركة مع منتخب بلادهم التي انحدر وهاجر منها آباؤهم مقابل البلاد التي احتضنتهم ورعتهم وعلّمتهم كيف يلعبون الكرة.
وقد شاهد معظم العرب المتأثرين بإنجاز المغرب العظيم بعد مونديال قطر لقاء حكيم زياش مع الصحفي الهولندي الذي كان أقرب إلى الاستجواب منه إلى الحوار. ورغم أن ردود زياش قد أثلجت صدور المغاربة والعرب، فالحق أن الحرية وسعة الأفق والانفتاح في تقدير الانتماء لدى المجتمعات الغربية عموماً هي ما أتاح لزياش التحدث بتلك الثقة في بيان سبب اختياره اللعب لصالح المغرب، وهي كذلك ما أتاح لزملائه الآخرين مزدوجي الجنسية – من أمثال سفيان بوفال وأشرف حكيمي وسفيان أمرابط – اختيار اللعب لمنتخب آبائهم وأجدادهم على حساب منتخبات البلدان التي ولدوا فيها وترعرعوا كروياً داخل أكاديمياتها في فرنسا وإسبانيا وهولندا منصتين إلى أصوات قلوبهم خلال لحظات الاختيار دون مزايدة في الولاء؛ ذلك فضلاً بطبيعة الحال عن عوامل أخرى لم يُعلن عنها بالضرورة من قبيل عدم توفّر فرص مغرية للتألّق مع منتخبات مواطن الهجرة كما قد يكون الحال لدى بعض اللاعبين.
في المقابل، ثمة لاعبون عرب آخرون لجؤوا إلى الخيار المناقض فلعبوا لصالح منتخبات البلاد التي ولدوا على أرضها وتعلموا الكرة في أزقتها وأكاديمياتها وعلى ملاعبها العريقة، ولم يزايدوا كذلك في الأمر وإنما اتخذوا قرارهم في هدوء مثل الجزائري كريم بنزيما. أما زين الدين زيدان فهو جدير بوقفة أكثر تأمّلاً، فالأسطورة الكروية – على مستوى العالم وامتداد تاريخ اللعبة – لم يتخذ القرار فقط باللعب للمنتخب الفرنسي على حساب إمكانية اللعب لصالح الجزائر مسقط رأس أبويه، بل ظلّ يؤكد باستمرار كلّما عُرضت عليه مسألة أصوله أنه فرنسي الكيان وإنْ لم ينكر أصوله العربية؛ ومع ذلك لم يفقد زيدان شعبيته عربياً، ربما بسبب براعته وإنجازاته وصورته الاستثنائية بالنسبة لعشّاق اللعبة للجميع بمن فيهم من العرب.
مع زين الدين زيدان إذن، ربما أكثر من حكيمي وبوفال وأمرابط على سبيل المثال المشار إليه قبل فقرتين، يمكن إلقاء نظرة أكثر هدوءاً وموضوعية على مسألة الانتماء والولاء الوطني في كرة القدم، وهي على كل حال لا تنفصل عن مسألة الانتماء والولاء الوطني بصفة عامة. لم يختر أسطورة كرة القدم العالمية أن يمثّل منتخب فرنسا فحسب وإنما أقرّ بأنه ينظر إلى نفسه بوصفه فرنسياً في المقام الأول، ولربما كان من شأنه أن يقولها صراحة: فرنسياً فحسب، لولا أن الحياء والذكاء يمنعانه من تهوّر لا داعي له. والمؤكد أن زيدان لم يكن ليغدو أسطورة لو أنه انحاز إلى العكس، على الأقل فيما يتعلّق باللعب للمنتخب وليس فيما يخصّ المشاعر الداخلية تجاه الانتماء. ومن الجدير بالانتباه أن فكرة الانتماء وتجلّياته تغدو أسهل عندما يتم التعامل معها باطّراح المزايدات الأخلاقية والوطنية جانباً وتبنّى مقاربات متّزنة إلى أقصى الحدود الممكنة.
ولكن في المقابل، الوطنية وما يرتبط بها من ولاء مسألة من الصعب أن يتم تناولها باتّزان في كل الأحوال، وهي عموماً إذا خرجت عن السيطرة تغدو ماحقة التأثير. يقول جوست ميرلو: “بمجرد ذكر كلمة خيانة يتحرك شيء ما في روح الإنسان. ويثار بداخله الغضب والاحتقار والشك والقلق، ويرغب الناس في تجنّب الموضوع. ورد الفعل الاجتماعي تجاه الخائن – حتى قبل أن نكون على يقين بأنه يستحق التهمة – مدهش للغاية”.
مقابل حسم الاختيار في المشاركات الوطنية منذ بدايات المسيرة الرياضية كما رأينا مع الأمثلة السابقة، ثمة أمثلة أخرى تتبدّل خلالها مسألة التمثيل الوطني، ما ينعكس بدرجة أو أخرى على مسألة الولاء للوطن تبعاً لذلك؛ فالعدّاءة الشهيرة مارلين أوتي Merlene Joyce Ottey مثّلت بلادها جامايكا في كل المحافل الدولية وحصلت على لقب أفضل رياضية في جامايكا لأكثر من عشرة مرات قبل أن تحصل على الجنسية السلوفينية وتمثل بلدها الجديد سلوفينيا في المحافل الدولية لعشرة سنوات تقريباَ.
ومع كرة القدم مجدّداً، مثّل الأسطورة ألفريدو دي ستيفانو Alfredo Di Stéfano ثلاثة منتخبات وطنية هي الأرجنتين (مسقط رأسه) ثم كولمبيا (دون أن يحمل جواز سفرها أو جنسيتها) وأخيراً إسبانيا التي حصل على جنسيتها في العام 1956 وكان ذا شعبية عريضة فيها نتيجة لإنجازاته التاريخية مع فريقها الأشهر ريال مدريد.
رغم أهمية كل منهما وما يمثّلانه من تجارب في سياقنا هذا، ربما لا يتّسع المقام لعرض تفاصيل تجربة مارلين أوتي وألفريدو دي ستيفانو مع ما يمكن النظر إليه مؤكداً بوصفه تبدّلاً للولاء الوطني بدرجة أو بأخرى، ولكن ليس خيانة بالضرورة. هذا، رغم أن كثيرين يمكن أن يرونها خيانة كاملة الدسم في حق الوطن الأم.
المسألة تظل معقدة بالتأكيد، فقد رأينا في مقام سابق أن “جورج ويا العصامي” مثال نادر على لاعب صعد إلى قمة المجد الكروي العالمي من بلد ذي صيت شديد التواضع كروياً، وظلّ شديد الوفاء لموطنه ثم بلغ به الحال أن فاز بمنصب رئيس ليبيريا، ولا يزال رئيساً للبلاد. مع ذلك، وبمباركة جورج ويّا نفسه، يلعب تيموثي ويا Timothy Weah ابن رئيس ليبيريا وأسطورتها التاريخية في كرة القدم لصالح منتخب الولايات المتحدة الأمريكية وليس إلى جانب فريق ليبيريا الوطني. الأمر معقد كما أشرنا، فتيموثي من أم جامايكية الأصل (أصبحت في مفارقة أخرى سيدة ليبيريا الأولى) هاجرت مع عائلتها وهي صغيرة إلى الولايات المتحدة، ووُلد تيموثي في نيويورك ما جعله أمريكياً بالميلاد؛ لكن ذلك في القابل قد يزيد مسألة الانتماء – ومن ثم التمثيل الوطني – تعقيداً لا أن يفكّ شفرتها بالضرورة.
وربما كان الأكثر غرابة على صعيد الولاء مع كرة القدم أن سخونة تبدّلات الانتماء تبدو في كثير من الأحيان أكثر استعاراً مع الأندية وليس المنتخبات. على سبيل المثال، أثار التوأم حسام وإبراهيم حسن جدلاً صاخباً في مصر حين قرّرا الانتقال من النادي الأهلي إلى نادي الزمالك بداية الألفية؛ والأمثلة المشابهة لحالات تبدّل الانتماء تجاه الأندية وتداعياتها الصاخبة كثيرة سواء في مصر أو غيرها من بقاع العالم.
يقول سايمون كريتشلي Simon Critchley في كتابه “فيمَ نفكّر حين نفكّر في كرة القدم؟” الصادر عن دار مدارات للأبحاث والنشر بالقاهرة سنة 2022: “بطبيعة الحال، عندما يتعلّق الأمر بالبطولات الدولية؛ فإن الحماقة التي يُسلم لها المتفرجون قيادهم تتجسّد في الوطنية لا ريب. يذهب توسان إلى القول: إن كرة القدم تخلق وطنية مثيرة للسخرية، شوفينية، ترتسم على وجهها ابتسامة ماكرة شيئاً ما”.
يكمل كريتشلي: “ليس يسهل إنكار القومية أو التنكّر لها؛ لأن ذلك سيكون تنصّلاً من حقيقة الأصول التي ننتمي إليها، وكيف أنها تشكِّل هويتنا وطريقة تفكيرنا ولغة حديثنا. وعلى أنني أعترض على التطابق الحديث الساذج بين الأمة والدولة، إلا أنني لا أظن أننا نستطيع ببساطة اختيار تجاهل طبيعة الوطنية وأهميتها الحيوية في خلق إحساس بالمكان، والهوية، والتاريخ، أو التهوين منها؛ كما أننا في حاجة إلى الاعتراف بالتباس المشاعر الوطنية وغرابتها؛ خاصة عندما يتوجّه الشعور نحو بلدٍ آخر غير بلدك؛ مثال ذلك، ولست وحدي في هذا الأمر، عندما عشتُ تجربتي الأولى مع الانجذاب العاطفي لبد آخر عام 1970 حين شاهدتُ البرازيل تلعب في كأس العالم (لي صورة حين كنت في العاشرة ممسكاً بكرة قدم ومرتدياً زي البرازيل بالكامل). تتيح لي كرة القدم أن أحلم بأماكن لم أزرها من قبل، ولا يُحتمل أن أزورها في قابل الأيام؛ مثل: الكاميرون، كازاخستان، كمبوديا… وبلجيكا”.
كلمة كريتشلي الجديرة بالتأمّل هي: “كما أننا في حاجة إلى الاعتراف بالتباس المشاعر الوطنية وغرابتها؛ خاصة عندما يتوجّه الشعور نحو بلدٍ آخر غير بلدك”، فبرغم أن هذا يقع للجميع دون غضاضة، فإن الأكثر تعقيداً هو ما يحدث عندما يكون الشعور بالمؤازرة متوجّهاً لبلد آخر على حساب البلد الأم، ليس كما في حالة اللاعبين مزدوجي الجنسية بل مثلما يمكن أن يحدث لجماهير تفقد حماسها لمنتخب بلادها جرّاء نتائج سلبية متلاحقة على مرّ السنين أو بصورة مكثّفة خلال فترة قصيرة، وحتى إذا لم تتخذ القرار في جميع الأحوال بتشجيع الفريق الخصم.
الولاء الوطني إحساس عميق وعظيم، لكنه ليس دوماً قابلاً للتحقّق بذات المثالية التي يتمّ التغنّي بها في الاحتفاليات المهيبة، سواءٌ في كرة القدم أو غيرها من أصعدة الحياة. لذلك فإن الأفضل أن يتم تداول فكرة الولاء الوطني في الكرة وغيرها باتّزان يخدم أوطاننا التي نحب وليس باندفاع تكون له أحياناً ردّات فعله المدمّرة؛ والمقصود بالاندفاع هو التهّور في تبنّى الأفكار والأفعال وليس الحماس الخلّاق بحال.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])