أتحداك أن تجد فيلما مصريا حديثا يخلو من كلمة “زبالة” فقد أصبحت هذه الجملة على لسان جميع أبطال الأفلام باعتبارها لفظا مناسبة ولائقا لمواقف عديدة لوصف شخص أو موقف أو حتى لوصف الذات.. وقد يصدمك أن هذه الكلمة التي كانت قديما لفظا بذيئا خارجا عن السياق المحترم وتحمل العديد من المعاني المهينة قد أصبحت معتادة لمن يقولها ولمن يسمعها دون طرفة عين من خجل أو حرج، وأرى بعيني أن أبطال الأفلام يتعمدون نطقها بقوة ومخارج حروف واضحة وصوت عميق دلالة على براعة أداءهم التمثيلي وتقمصهم للشخصية.
وآفة حارتنا التكرار الممل والتشابه المقيت، فبما أن جميع الأفلام يذكرون كلمة “زبالة” بكل هذا الفخر لماذا لا نذكرها في فيلمنا، بل لماذا لا نزيد الجرعة فالناس تحب هذه الكلمة الرائعة.لتجد الحوارات المتشابهة فيلما بعد فيلم.
إذا ذهبت بعيدا لن تجد لهذه الكلمة وجود في الأفلام المصرية القديمة حتى لوصف “الزبالة” نفسها، فقد كانوا يبتعدون عن ذكر مواضيع تتعلق بهذه الأشياء وإذا اضطروا لذكرها تكون شيئا خاطفا سريعا (البواب يشاهدها تخرج من السلم الخلفي في منتصف الليل تتحجج بأنها ترمي الزبالة بينما هي في الحقيقة تريد التخلص من الجثة).
لقد انتقلت هذه الكلمة من مرحلة التحدث المباشر عن القمامة الفعلية وهو ما نجده في الأفلام القديمة إلى مرحلة السب والشتيمة الفظيعة التي تزلزل بها كيان شخص وهو ما نجده في أفلام عادل إمام القديمة على سبيل المثال “دول عالم زبالة”، ثم انتقلت لتصبح شتيمة عادية وخفيفة لا تقال للمجرمين أو المنحرفين وإنما للأصدقاء الذين يفعلون أمورا سخيفة ومزعجة أو لا يصونون العشرة، وهنا كانت مقبولة أيضا لأنها بالفعل تعبر عن شحنة عاطفية مستحقة.
لكن الإعجاب الشديد بهذه الكلمة أخذ ينقلها من جيل إلى جيل ومن فيلم إلى فيلم، والآن أصبحت كلمة عادية ربما تصف بها صديقك من باب الهزار أو العتب “أنت عيل زبالة”، بل قد تصف بها فتاتك أو حبيبتك في لحظة أنس، ولم تعد محصورة في الأفلام على ألسنة الشباب الطايش أو الصايع بل إن الكبار والصغار يقولونها والرجال المحترمين والسيدات المحترمات ومن كل الطبقات وكل خلفيات التعليم فلم تعد تمثل أي إهانة، بل هي تعبير عادي أو لطيف أو يؤدي الغرض… لاحظ هنا كيف تنقلب الأحوال وتتطور الكلمة لتفقد فظاعتها بكل بساطة مخجلة.
طبعا السينما لا تخترع الكلمات من تلقاء نفسها، ولا تكسبها معناها أيضا، فهي بالتأكيد انعكاس للشارع وتنقل ما يحث فعليا بين الناس، وبالفعل انتشرت هذه الكلمة مؤخرا على ألسنة الناس وأغرقت المجتمع وأصبح الطالح والصالح يقولها.
لكن السينما الغبية تفرط في الاستخدام، فما أن شاهد هذا السيناريست هذه الكلمة تقال في الشارع حتى يقرر أن يذكرها 20 مرة في فيلمه ثم يشاهد سيناريست آخر هذا الفيلم فيقرر أن يذكرها 50 مرة في فيلمه، والكل يدش تحت بند نبض الشارع والواقعية، تماما مثلما أصبح الصايع المنحط المجرم متعاطي المخدرات المحبوب هو البطل الأكثر رواجا في الدراما المصرية في السنوات الأخيرة رغم أنه ربما يكون غير موجود فعليا.
هل يصح أن نفرض على صناع السينما كلمات محددة ممنوعة من الحوارات؟ هل يمكن أن نعد قاموسا للمعاني المقبولة وغير المقبولة؟ بالطبع هذا لا يمكن.. لكن يجب على جهة ما أن تنصح أو تطلب النظر في أو تقترح أو تشجع على أو تناقش، لحث المجتمع السينمائي على عدم الإفراط والتخمة المبالغ فيها في كلمات محددة وخاصة إذا كانت غير ذات معنى ولا دور لها في أي عنصر درامي حقيقي.. هل من حقنا أن نطلب بعض التهذيب الذي لن يؤثر على أي إنتاج ولا معنى ولا أرباح؟ وخاصة أننا لا نصنع المجد ولا نقدم السينما العظيمة ولا نطمح في أي جائزة.