في بداية نَصّ أدبيّ له ضمن كتاب “حكاية عامل غرف” الصادر عن دار مسعى للنشر والتوزيع بأوتاوا الكندية سنة 2018 من ترجمة محمد الفولي لمختارات من أدب كرة القدم الأرجنتيني، يقول الأديب الأرجنتيني أوزفالدو سوريانو Osvaldo Soriano: “حينما اعتدت لعب الكرة في باتاغونيا منذ أكثر من عشرين عاماً، كان الحكم هو بطل المباريات الحقيقي. إذا فاز الفريق صاحب الأرض، يهدونه جرّة من نبيذ ريو نيغرو، وإذا خسر يحبسونه. كانت جرّة النبيذ هي الأكثر شيوعاً بكل تأكيد، فلم تكن توجد ميول انتحارية لا عند الحكام ولا اللاعبين الضيوف”.
لأمدٍ طويل ظلّ الحَكَم في وجدان جماهير الكرة – في الساحات الشعبية على وجه الخصوص – بطلاً على طريقة أوزفالدو سوريانو، إمّا متوّجاً بجائزة سنيّة وإمّا مُخزىً بعقوبة تتجاوز الحبس في كثير من الأحيان، ولعل ذلك هو مكمن البطولة: أن لا تتردّد في قبول وظيفة في كل مرّة تؤدّيها تبدو بمثابة مغامرة احتمالات نتيجتها مناصفة بين طرفي نقيض يجسّدان التكريم الرفيع والإذلال المشين.
ظلّ الحكم إذن لأمد طويل كبش الفداء الذي يُلقي عليه أنصار الفريق المهزوم ظلال انكساراتهم وإحباطهم جرّاء نتيجة المباراة بصرف البصر عن عدالتها وما يستحقه فريقهم من وجهة نظر محايدة، ومعلوم أن عيون المشجعين في كرة القدم لا ترى وجهات النظر المحايدة بل تتّسع حدقاتها لكل ما هو متعصّب لصالح الفرق التي يشجعونها وحسب.
في الدرجات الرفيعة لدوريّات ومسابقات اللعبة، حيث الحَكَم بعيد عن أن تطاله بسهولة أيادي الجماهير وأرجلها بثواب أو عقاب من أي قبيل ماديّ، ثمة حاجة إلى كبش فداء آخر يسهل جَلْده على الأقل معنويّاً في حال الهزيمة، ولن يبرز لتلك المهمة القاسية أفضل من مدرّب الفريق الذي يضطلع والحال كتلك بمسؤولية أعظم، فجزاؤه لا ينتهي بنهاية تداعيات المباراة بعد ساعات أو حتى بضعة أيام وإنما يتجدّد باستمرار وجوده مع الفريق. إلى ذلك، لا يمثّل المدرّب كبش الفداء بالنسبة للجماهير المتعصّبة فحسب وإنما كذلك – وربما قبل ذلك – بالنسبة لإداريّي الفريق “المتعقّلين” الذين يرون فيه مهرباً رائعاً من كل تبعات لوم الجماهير والإعلام على الأداء السيّء لفريقهم باستثناء اختيارهم له.
مع كل ذلك، ولكل ذلك، تضاعفت نجومية المدرّبين في عالم كرة القدم حتى طغت شهرة بعضهم على شهرة كثير من لاعبي الفرق التي يدرّبونها، وتجاوزت صلاحيات غير قليل منهم صلاحيات الجميع – حتى مالك النادي ورئيس الاتحاد الوطني – ليس فقط فيما يتعلّق بالإصرار على طريقة لعب فيها الكثير من المغامرة وشراء لاعبين صاعدين بصفقات خيالية والاستغناء عن آخرين متمرّسين بأثمان زهيدة، وإنما بما يشمل إدارة شؤون الفريق مجملة.
مثل شخصية المخرج في السينما، ظلّت صورة المدرّب صاحب الشخصية القوية مرتبطة بالصرامة، بل ربما إلى ذلك بالصراخ والتهديد وشتم اللاعبين بغية حثّهم على الحماس واستخلاص أقصى ما لديهم لانتزاع الفوز من براثن الخصم في المباراة القادمة كما يُشاع. والأرجح أن عصبيّة المدرّب طبيعة شخصية أكثر من كونها أسلوب إدارة متعمّد لأغراض عملية بحتة. في المقابل، يعتمد مدرّبون آخرون على بناء علاقات إنسانية عميقة مع اللاعبين دون فقدان الحزم والصرامة بالضرورة.
الإيطالي فالتر ماتزاري Walter Mazzarriمعروف في بلاده بكونه عصبيّاً، ولكن ضحايا عصبيّته من الحكّام أكثر من لاعبيه، على الأقل كما هو شائع في وسائل الإعلام بعيداً عمّا يمكن أن تكشفه مجريات تمارين فِرَقه المغلقة. الإسباني الأكثر شهرة بيب غوارديولا Pep Guardiola لا يخلو من العصبيّة، لكن أشهر ما يميّزه في التعامل مع اللاعبين هو نزعته الذرائعية التي تجعله – بحسب كثيرين – ينظر إلى اللاعبين كالآلات يقدّرها بحسب عطائها ويستبعدها تماماً عند تعرّضها لأي خلل قد يؤّثر على قدرتها على الإنتاج.
الألماني يورغن كلوب Jürgen Klopp، الذي لا يقلّ شهرة عن غوراديولا صاحب ابتسامة تشي بالطيبة واستعداد أوضح لتقبّل تقلّبات اللاعبين وملاطفتهم عند اتخاذ قرارات ليست في صالحهم، كالاضطرار إلى استبدال أحدهم في غمرة حماسه أثناء مباراة هامة مع أحد الخصوم الألدّاء؛ ومع ذلك لا يسلم كلوب من تهمة العصبية التي دفعته على سبيل المثال إلى تلقّي عقوبة الإيقاف لمباراتين ودفع غرامة مالية تناهز المائة ألف دولار. في المقابل، مواطنه الأسطورة فرانتس بكنباور Franz Beckenbauer كان صاحب طلّة تفصح عن وقار وهيبة لا تغلّفهما العصبية بحال، وكانت شخصيّته القيادية التي تحظى باحترام طاغٍ بين الألمان كفيلة باستجابة لاعبي منتخب بلاده لتوجيهاته دون الحاجة إلى انفعال من أي قبيل.
جوزيه مورينو José Mourinho ارتبط بعصبية شديدة الخصوصية، فأكثر من كونها مع اللاعبين أو الحكّام بصفة خاصة، كان المدرب البرتغالي الشهير يُفرغ كؤوس غضبه خلال مؤتمرات صحفية يطلق خلالها تصريحات نارية تصيب الجهة التي يراها مستحقة بحسب سياق المؤتمر الصحفي وما قبله أو بعده من أحداث، ولا يتورّع مورينو عن أن تكون الجهة التي يقصفها بطلقاته هي النادي الذي يدير فنيّاً شؤونه الكروية إذا اقتضى الحال.
المدربون السابقون على اختلاف طباعهم حققوا إنجازات بارزة مع أنديتهم أو منتخباتهم، ومعظمهم بات من أساطير المهنة الرياضية الشاقة والمهلكة للأعصاب كما هو معروف. غيرهم من المدربين ذوي البصمات المتميزة والإنجازات الفريدة كثيرون، من أمثال الأسكتلندي أليكس فيرغسون Alex Ferguson أسطورة مانشستر يونايتد الذي أنعمت عليه الملكة بلقب سير Sir، والبرازيلي ماريو زاغالو Mário Zagallo الذي أحرز كأس العالم مع منتخب بلاده لاعباً ومدرّباً ومساعد مدرّب، ومواطنه كارلوس ألبرتو Carlos Alberto Parreira الذي أحرز كأس العالم مع البرازيل أيضاً وحقّق أكثر من إنجاز متميّز مع أكثر من منتخب عربي، والفرنسي ديدييه ديشامب Didier Deschamps الذي أحرز لبلاده كأس العالم لاعباً ومدرباً، كل أولئك على سبيل المثال العابر بطبيعة الحال.
طِباع المدرّب – مما عرضنا لبعض أشكاله وألوانه فيما مضى – تضفي طابعاً خاصاً على شخصيّته، وبحسب قوة تلك الطباع تكون شدة تأثير الطابع الشخصي على الجماهير وكذلك على الخاصة من أهل الحقل الرياضي، ومن ثمّ يخلع الطابع سحره على شهرة المدرّب.
ولكن قبل الطابع، الذي هو بمثابة التقدير الذاتي المختلف من شخص إلى آخر، تأتي إنجازات المدرّب بوصفها العامل الأهم في تحقيق مكانة وشهرة المدرّب؛ فهل الإنجازات مسألة موضوعية تماماً على عكس الطابع العام الذي تعكسه شخصية المدرّب أمام الآخرين؟
تبدو الإجابة كما لو كانت “نعم” بامتياز، ولكن الواقع أن ما نظنّه موضوعيّاً في التقييم لا يسلم من الجوانب الذاتية التي تختلف من شخص إلى آخر بدورها بدرجة أو بأخرى، فعند الحديث عن إنجازات المدرب، بل حتى عن الألقاب الرسمية التي أحرزها، ندخل في أتون معركة ذاتية في التقييم رجوعاً إلى العديد من العوامل المتوارية المربكة، فضلاً عن انحياز كل فريق، بحيث تتوالى الأسئلة وتتداخل المعايير: هل تُقاس الإنجازات بالألقاب وحدها؟ هل الأهم في الألقاب العدد أم قيمة اللقب؟ ما هو مقياس قيمة اللقب؟ هل تدخل الحقبة التاريخية في تقييم قيمة اللقب ذاته لاختلاف المؤثرات في البطولة نفسها عبر الأجيال؟ هل الشهرة إجمالاً معيار مهم في تقدير قيمة المدرّب؟ هل هناك أدوات محدّدة لقياس تأثير المدرّب على فريقه من بعده وعلى زملائه وعلى فنيّات المهنة مجملاً؟ ألا يستحق بعض المدرّبين الذين حقّقوا إنجازات فريدة مع فرق متواضعة لم تُتوّج بألقاب رفيعة تقديراً ومنزلة موازية لزملائهم الذين أتيحت لهم كل الإمكانيات مع فرق عظيمة لتحقيق الألقاب الكبيرة؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تبدو على هذا الصعيد بلا حدود، ليس مع مجال التدريب في عالم كرة القدم فحسب بل مع كل مجال في أي مكان وزمان.