“يمكن لكل المجتمعات تقريباً أن تجد سبباً وجيهاً كي تعتبر نفسها متميزة، على الأقل في نشاط بذاته. إن ادِّعاءً بسيطاً بالكفاءة في أي مجال – في الرسم أو كرة القدم أو الشطرنج أو الطبخ – عادة ما يكفي لكي يضخم الناس من أهميتهم”. هكذا تحدّث عالم الجينات الإيطالي لويجي لوقا كافللي Luigi Luca Cavalli-Sforza في كتابهGenes, People, and Languages ، نقلاً عن الترجمة العربية للدكتور أحمد مستجير تحت عنوان “الجينات والشعوب واللغات”.
ترِد كرة القدم ضمن الأمثلة التي ساقها عالم الجينات الشهير على إمكانية ادّعاء مجتمع ما للتفوّق تأسيساً على تميّزه في أيٍّ من المهارات، وعلى هذا الصعيد لا يطرأ على بالي مثال أفضل من بعض شعوب أمريكا الجنوبية، حتى إذا كان ادّعاء تلك الشعوب مبنيّاً على شغف أصيل ولمجرّد الاعتزاز الخالي من أية نزعات عنصرية بالضرورة. واقعُ الحال السياسي والاقتصادي والحضاري بصفة عامة، وقياساً إلى دول العالم الأول في أوروبا الغربية تحديداً موضع المنافسة التقليدية مع أمريكا الجنوبية على عرش كرة القدم العالمية على صعيد المنتخبات، ذلك الواقع لا يشجّع دولَ أمريكا الجنوبية البارزة عالمياً في كرة القدم على الذهاب بنزعة التفوّق تلك أبعد من ملاعب الكرة بقدْرٍ ذي بال، إلّا ما كان على سبيل الزهو بخصوصيات ثقافية متميّزة وجديرة بالتقدير في الموسيقى والفنون والآداب.
أكثر من البرازيل التي ارتبطت صورتها في وجدان العالم على اختلاف أرجائه بطابع تستبدّ به كرة القدم على حساب غيرها من المكوّنات الحضارية والخصوصيات الثقافية، فإن النزعة الأكثر تعصّباً رجوعاً إلى ما يراه الشعب من أحقيّة التميّز الكرويّ تبدو لي في الأرجنتين التي ترى نفسها أكثر شغفاً باللعبة وأعلى كعباً فيها، سواء بالرجوع إلى الألقاب القاريّة أو ما تأخّر أو ضاع إحرازه من البطولات العالمية – وأبرزها كأس العالم – بسبب سوء الحظ أو حتى الظلم كما يرى الأرجنتينيّون.
يتابع لويجي لوقا كافللي في الموضع نفسه من الكتاب: “الروتين اليومي لأيٍّ منّا – وهو روتين يخضع لمؤثرات فردية وحضارية – يضج بمقارنات سطحية فجة بين عادات الفرد وعادات الأجانب التي كثيراً ما تكون مختلفة جداً. وحقيقة وجود هذه الاختلافات – حتى دون أن نعرف مصدرها – قد تكون كافية لإذكاء الخوف أو البُغض. إن الطبيعة البشرية لا ترحّب بالتغيير، حتى إذا كنّا ساخطين على أوضاعنا. وهذا الإخلاص للعادة والخوف من الإصلاح يشجع المحافظة على القديم، مما قد يؤدّي إلى العنصرية”.
بصرف النظر عن عوامل بعينها كالإخلاص للعادة والخوف من الإصلاح والتغيير والإصرار على المحافظة على القديم وإمكانية أن يفضي ذلك إلى العنصرية كما يرِد في كلام لويجي السابق هذا، فإنه مع العصبيّات – وخاصة في الرياضة – لا تعرف الجماعات المنطق على كل حال. وربما جاز أن نقول إنه من الطبيعي أن يدفع الشغف العظيم أيّاً من الشعوب إلى ادّعاء التفوّق في المجال الذي يطغى عليه شغفُه دون الالتفات إلى أية نتائج واقعية متحققة بالفعل أو براهين عملية دامغة. وعليه تصبح نزعة الأرجنتين إلى الاعتقاد العميق بأنها الأفضل قاريّاً – وربما عالميّاً – في كرة القدم نزعة تعصّب رياضية أكثر من كونها مسألة ذات دلالات عنصرية بالضرورة.
مهارات دول أمريكا الجنوبية كالبرازيل والأرجنتين والأوروغواي، وكذلك تفوّق العديد من دول أوروبا الغربية في كرة القدم مثل إيطاليا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإنجلترا، تدلّ على شيوع اللعبة الأكثر شعبية عالميّاً في تلك الدول – على سبيل المثال – وعلى توفّر القواعد الجماهيرية والإمكانيّات المختلفة لازدهار اللعبة في تلك الأرجاء من العالم بصفة خاصة. ولكن ليس من السهل القول بأن شعوب تلك الدول تمتلك أفضليّة وراثية لإجادة فنون اللعبة تميّزها إجمالاً عن غيرها من الشعوب الأدنى كعباً في اللعبة في سائر أرجاء العالم. وقد رأينا من قبل أن القول بأفضلية “جينيّة” لأيٍّ من الشعوب مع أية لعبة رياضيّة أمر يصعب إثباته من الناحية العلمية حتى مع الرياضات التي تشهد تفوّقاً واضحاً لبعض الشعوب على غيرها، من قبيل اليابان وكوريا والصين في رياضات الدفاع عن النفس كالكاراتيه والجودو والتايكوندو والكونغ فو، أو حتى مع المنحدرين من أعراق ذوات أصول إفريقية في مسابقات العدْو على اختلاف مسافاتها. فمع رياضات الدفاع عن النفس ذات النشأة المنحدرة من جنوب شرق آسيا، لم تعد بطولة العالم في تلك الرياضات حكراً على الدول التي نشأت فيها اللعبة وانتشرت عبرها إلى العالم، فبرغم أن اليابان لا تزال تتربّع على عرش اللعبة رجوعاً إلى العدد الإجمالي للميداليات فإن بطل العالم في الجودو حالياً وأحد أبرز أساطير اللعبة على مرّ العصور هو الفرنسي تيدي رينر الذي تفوّق في نهائي بطولة الدوحة عام 2023 لفئة وزن فوق 100 كيلوغرام على الروسي – وليس الياباني – إينال تاسوييف، وذلك بعد تغلّبه في نصف النهائي على المصنف أول عالمياً الطاجيكستاني – مجدداً، ليس الياباني – تيمور رخيموف.
ذلك عن العوامل الوراثية بالنسبة للشعب بأسره، فماذا عمّا يخصّ العوامل ذاتها في العائلة الواحدة بين الإخوة وبين الأب والأبناء؟ لا يبدو القطع بوجود تأثيرات وراثية قويّة ومؤكدة مسألة أقلّ صعوبة حتى ضمن مجال المقارنة الضيّق هذا قياساً إلى محيط الشعوب شديد الاتّساع.
الأسماء من عائلة واحدة شائعة في مختلف البقاع والأزمنة في عالم كرة القدم، وإذا كان الأب يورّث ابنه بعضاً أو كثيراً من صيته الكروي عقب اعتزاله اللعب في النادي أو المنتخب، فإن الإخوة عادة ما يتقاسمون الصيت الكروي – بحظوظ متفاوتة بوضوح في الغالب رجوعاً إلى مهارة كلٍّ منهم – ضمن الحقبة الزمنية نفسها وغالباً البقعة الرياضية ذاتها، وأحياناً النادي نفسه.
تشيزاري وباولو مالديني أحد أشهر الأمثلة على نجاح الأب والابن في عالم الكرة، فتشيزاري لمع في سماء إيه سي ميلان والمنتخب الإيطالي في خمسينيات وستينيّات القرن الماضي وخلفه باولو بنجاح مماثل، بل أعظم على الأرجح، مع إيه سي ميلان أيضاً والمنتخب الإيطالي في أواخر ثمانينيات وعلى مدى تسعينيات القرن الماضي وبدايات الألفية الجديدة. لكن أداء وصيت وحظوظ الجيل الثالث الأكثر تواضعاً من عائلة مالديني حتى اللحظة، ممثّلاً في الأخوين كريستيان ودانييل ابنَي باولو مالديني، لا تقدّم دليلاً على قوّة العامل الوراثي بقدر ما قد تدعم نقيض ذلك فتُبرز دور المحيط العائلي والاجتماعي في حفز الأبناء على اتّباع خُطى الآباء فيما يُظَنّ إرثاً عائليّاً مضمون النجاح والتفوّق.
جورج وتيموثي ويا، جورجي ويانيس هاجي، عبيدي بيليه و أندريه وجوردان وإبراهيم آيو، بيتر وكاسبر شمايكل، دييجو وجيوفاني سيميوني، حمادة وحازم إمام، أمثلة على صعيد الآباء والأبناء. هيرفى وباتريك ريفيلى، غاري وفيل نيفيل، سامي وراني خضيرة، سيد وإبراهيم وإسماعيل يوسف، حسام وإبراهيم حسن، نور الدين وسفيان أمرابط، أمثلة على صعيد الأشقاء. المراكز المختلفة – في كثير من الأحيان – والمستويات المتباينة التي ظهر بها أغلب أولئك وغيرهم من أبناء العائلة الواحدة تبيّن أن إثبات فكرة انتقال المهارات الكروية عبر الوراثة مهمة بالغة الصعوبة، خاصة في ظلال الأعداد القليلة لحالات الأقرباء التي لاقت نجاحاً وظهوراً مقابل غيرها مما لم يُكتب له أن يلقى حظّاً من النجاح والظهور، وبتذكّر الشائع في كل زمان ومكان متمثّلاً في اتخّاذ بقية أفراد العائلة على اختلاف صلاتهم بالنجم أيّاً من مسارات الحياة التي لا تمتّ إلى كرة القدم أو حتى الرياضة بصلة.
في المقابل، يجب الانتباه إلى أن النجاح والتألق في عالم كرة القدم – كما هو الحال في أي مجال آخر – لا يتوقّف فقط على الموهبة التي يمكن أن تنتقل بالوراثة، بل يقوم على عوامل كثيرة ومتداخلة ليس سهلاً بحال أن يحالف التوفيقُ فيها مجتمعةً أيّاً من أبناء العائلة حين يقرّر أن يحذو حذو أبيه أو شقيقه الأكبر أو حتى توأمه.
ليس من السهل إذن حسم مسألة انتقال الجينات الكروية عبر أفراد العائلة من حيث احتمالات حدوثها وشدة تأثيرها. ولكن على كل حال، يبدو أن الجماهير تحاول ما وسعها استجداء الأقدار لوقوع تلك الحالات وتكرارها بنجاح لافت، مدفوعةً على الأرجح بقوى عظيمة من الحنين إلى أمجاد كروية غابرة.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])