“عندما قسم الله المواهب بين الناس كان كريماً كالعادة، ولكن البشر شحيحون في إتاحة الفرص”. جاء هذا في “طريق الحكمة السريع” تعبيراً عن أنّ مجهود البشر تجاه المواهب على اختلاف الصعد ينصرف إلى التشكيك فيها ووضع العراقيل لها – لأسباب متعددة ومتشابكة ومتباينة – أكثر مما يعمل على اكتشافها وإفساح الطريق أمامها.
المواهب في كل مجال تتجاوز الخيال، بل هي أصلاً مفاتيح تحقيق الخيال. ولكن الموهبة وحدها لا تكفي (للأسف؟) لتحقيق أيّ إنجاز، أو حتى لإثبات جدارة صاحبها وأحقيّته بأي قدر من التكريم يتجاوز الإعجاب مجرّداً في حال لم يتمكن الموهوب من ترجمة قدراته الفطرية إلى نتائج عملية تفيد أو تمتع الخاصة أو العامة من المتلقّين على نحو أو آخر بصورة واضحة. وإذا كانت حكمة شوقي ذائعة الصيت: “وما نَيْل المطالب بالتمنّي ** ولكنْ تُؤخذ الدنيا غِلابا” دلالة على أن الإنجاز يتحقّق بالإصرار على التحدّي والمثابرة على المنافسة وليس بالتمنّي مجرّداً، فإن الأجدر بالانتباه على هذا الصعيد هو أهمية وفاعلية التحدّي والمثابرة ليس إزاء القعود والتمنّي بصفة عامة وإنما مقابل الموهبة التي تنقصها روح التحدّي والمثابرة تحديداً.
كرة القدم ليست بِدْعاً إذن في هذا السياق، سواء من حيث مصير أية موهبة وأحقيّتها بالاحتفاء أو من حيث تعدّد المواهب التي يمتلكها اللاعب نفسه، أو غير ذلك ممّا يمتّ إلى خفايا عوالم المواهب التي يختلط فيها العدل بالظلم ويطغى الأخير على الأول بوضوح إذا كان مناط الحكم هو مصير كل موهبة بصرف النظر عن العوامل الأخرى التي تؤثّر على إنجازها، بل ربما حتى بأخذ تلك العوامل في الاعتبار. فالأبرز في عالم كرة القدم ليسوا بالضرورة الأفضل إلّا باعتبار ما تحقّق وليس ما كان جديراً بأن يتحقّق، أي باعتبار الإذعان لسياسة وحكم الأمر الواقع، ودون أن ننسى على كل حال الاختلافات الكبيرة حتى في تقييم الإنجازات المتحققة بالفعل التي تصبح هيّنة مقارنة بمتاهات الأحكام المتعلّقة بما كان من الممكن أن يتحقّق لو كان كذا وكذا.
يقول ستيفن مامفورد Stephen Mumford أستاذ الميتافيزيقيا بقسم الفلسفة بجامعة دُرَ(هـ)ام Durham بإنجلترا في كتابه “فلسفة كرة القدم: ما وراء اللعبة” الصادر عن دار العربي للنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 2022، ترجمةً للأصل الإنجليزي Football: The Philosophy Behind the Game: “عندما نقول بأن جمال كرة القدم ليس ذاتيّاً، نفتح الطريق أمام معرفة خصائصها الجمالية، والفكرة هي أن هناك ميزات جميلة في اللعبة نفسها. ماذا يمكن أن نقول عن هذه الخصائص الجمالية؟ شيء واحد أريد أن أجادل فيه هو أنها متعددة الطبقات. يمكن العثور على بعض الجماليات في الحركات الفردية، حيث استعراض مهارات الجسد وقدراته، مثلما نرى عندما نشاهد لعب كرويف أو زيدان، أو عندما يسجل جاريث بيل بلعبة “دبل كيك” في نهائي دوري أبطال أوروبا”.
يواصل مامفورد في سياق استعراض جماليات كرة القدم: “ويمكن العثور على جماليات أخرى في لحظات أشدّ تعقيداً، تجتمع فيها عديد من العناصر المختلفة. وأتذكر هنا الهدف الرابع للبرازيل في نهائي كأس العالم 1970، والذي يعدّه الكثيرون نموذجاً سماويّاً لفن لعب كرة القدم. هنا، لم تكن حركات اللاعبين الفردية هي مكمن المتعة، بل التركيبة الكاملة لصنع الهدف: الطريقة التي تمّ بها تمرير الكرة من الجانب الأيسر للدفاع، والانطلاق قطرياً عبر الملعب، قبل أن “يقشّرها” بيليه لكارلوس ألبرتو المندفع ليسدّد الكرة كقذيفة مدفع في المرمى. وهناك مستوى جمالي ثالث يجب الكشف عنه؛ ألا وهو الجمال الكامن في المستوى التكتيكي، أي ما يتعلق بالموقع والحركة وسلاسة أداء الفريق بأكمله”.
تلك بضع جماليات للّعبة كما قرأها أستاذ ميتافيزيقيا مولع بكرة القدم، وثمة لا ريب مداخل أخرى لاستكشاف وقراءة جماليات متعددة لكرة القدم من نوافذ وأبواب مدارس فلسفية وعلمية وأدبية وفنيّة ورياضية أخرى، وبقدر تعدُّد تلك المداخل والجماليات التي يمكن استكشافها وقراءتها تتعدّد المواهب التي يمكن تقييم وتقدير اللاعبين تأسيساً عليها كمّاً وكيفاً، أي من حيث عدد المهارات/المواهب التي يمتلكها اللاعب ومن حيث إجادته لكل مهارة/موهبة، وهي مسألة لا يمكن حسابها على أصابع اليد أو قياسها بالمسطرة أو حتى تحديدها استعانةً بأيّ من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحديثة، فالخلاف الخلّاق لا مناص منه بما يقطع الطريق على كل محاولات الوصول إلى نتيجة حاسمة لتتويج الأفضل في أيٍ من المواهب/المهارات، بما في ذلك ما يُفترض أن يكون محسوماً بالأرقام مجردة كلقب الهدّاف وذلك – مثلاً – لاتساع نطاق المقارنات بالنظر إلى تعدّد واختلاف البطولات التي يتمّ تتويج أيٍّ من اللاعبين باللقب ضمنها، وفضلاً عن دخول عوامل أخرى تقديرية/ذاتية إلى حدّ بعيد كصعوبة الأهداف المحرزة وأهميتها في المباراة أو البطولة وجمالياتها بصفة مطلقة.
تحت عنوان “من كرة القدم إلى رياضة أخرى والعكس” رأينا أن مايكل جوردن قد أبلى بلاءً حسناً في موهبتين رياضيّتين مختلفتين: “جرّب مايكل جوردن نجم نجوم الدوري الأمريكي لكرة السلة (الرابطة الوطنية لكرة السلة NBA) في قمة تألقه الانتقال إلى لعب كرة القاعدة/البيسبول لموسم واحد يرى البعض أنه قدّم خلاله أداءً مُرضياً عاد بعده إلى الرابطة الوطنية لكرة السلة من جديد”. وفي السياق نفسه رأينا تجربة أخرى لم يُكتب لها النجاح عند محاولة إضافة يوسين بولت موهبة ثانية إلى الموهبة التي شهدت تألق نجوميّته الأسطورية: “انتقل أسطورة سباقَي مائة متر ومائتي متر الجامايكي يوسين بولت بعد اعتزاله العدْو إلى محاولة ممارسة كرة القدم الاحترافية مصرحاً في حديث تلفزيوني بأنه يملك ما يلزم من المهارات الأساسية للعبة ومنوّهاً بصورة خاصة إلى سرعته. ولكن بعد فترة وجيزة من التدريب مع فريق سنترال كوست مارينيرز الأسترالي لكرة القدم أدرك أسطورة السرعة الأعظم في كل العصور أن ما ينقصه في كرة القدم الاحترافية تحديداً هو السرعة”.
وفي مشاهد على الإنترنت يستعرض كلٌّ من ميسي وديفيد دي خيا وأنطوان غريزمان ونيمار مهاراتهم في إحراز الأهداف، ولكن مع كرة السلّة وليس بين قائمَي وعارضة مرمى كرة القدم. كانت المشاهد استعراضية ترفيهية مما تعجّ به منصّات الإنترنت على اختلافها، ولم يَبْدُ فيها أيّ من اللاعبين مهتمّاً بإظهار مواهبه المحتملة في كرة السلّة على نحو جاد. وفي موقع صحفي على الإنترنت أنّ قناة نكسبلاك البريطانية (لم أستطع الاطّلاع على موقع القناة المذكورة) قد نشرت “فيديو عرضت فيه جملة من نجوم كرة القدم الذين يجيدون رياضات أخرى فضلاً عن احترافهم كرة القدم. إذ يمارس بعضهم رياضات جماعية مثل كرة السلة وكرة القدم الأمريكية، بينما يمارس البعض الآخر الرياضات الفردية كالملاكمة والفنون القتالية”، وأشار الموقع إلى أن قناة نكسبلاك قد عرضت في الفيديو المشار إليه “العديد من اللاعبين المحترفين كدييغو مارادونا الذي يمارس رياضة الملاكمة وزلاتان إبراهيموفيتش الذي يمارس فنون القتال وكرة المضرب. كما ظهر أيضاً اللاعب نيمار وهو يلعب كرة القاعدة وجيرارد بيكيه وسيسك فابريغاس وهما يلعبان مع بعض كرة الطاولة، بينما ظهر اللاعب أندري شيفتشينكو الأوكراني وهو يلعب الغولف”.
إذا كان تعدّد المواهب في كرة القدم داخل اللعبة نفسها يعني تعدّد مهارات اللاعب التي يفيد منها في مركزه داخل الميدان، ويعني أيضاً قدرة اللاعب على الأداء في أكثر من مركز بمهارة وفاعلية واضحة، فليس من المبالغة القول بأن تعدّد المواهب داخل اللعبة نفسها – وليس خارجها – يمتدّ ليشمل بموازاة كل ذلك ما يمكن أن تخلعه شخصية اللاعب على جماهيريته وصيته ونجوميّته، سواء عبر علاقاته مع زملائه ومدرّبيه والمسؤولين داخل أسوار النادي أو من خلال أدائه في المؤتمرات واللقاءات الصحفية وإطلالاته وتفاعله مع الإعلام والجماهير في كل المنابر والساحات المتاحة في عالمنا الواقعي والآخر (الأكثر تأثيراً؟) الذي يشار إليه بالافتراضي.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])