في حين يبدو السؤال مقبولاً لدى البعض ومستغرباً أو حتى مستنكراً لدى آخرين، فإنه بمثابة الإعلان عن الحرب بل عمل من أعمال الحرب لدى الفئة بالغة التعصّب من المشجّعين والتي تمثّل الشريحة التي تُغرق الملاعب بصخبها الأخّاذ وتخلع على اللعبة بأسرها سحرها الفريد.
مشجعّو الكرة إذن طوائف، لا تبدأ بغير المبالي – كما هو شائع لدى تصنيف المشجعين عادةً – وإنما بمُبغِض اللعبة المُغالي الذي لا يكاد يصبر برهة على أخبار الكرة، دع عنك ضجيجها ومشاهدة مبارياتها، فينصرف عن كل ذلك، لا نقول إلى أخبار وصخب رياضة أخرى وإنما غالباً إلى غير الرياضي من الأنشطة والأخبار، فالمغالون في كرههم لكرة القدم غالباً من غير أنصار متابعة الرياضة، حتى إذا كانوا في بعض الحالات أقلّ انزعجاً من الخضوع قسراً لمتابعة المشاهد والأخبار لأيٍّ من الرياضات غير كرة القدم.
ثم تأتي الطائفة التي تضمّ غير المبالين من المشجّعين الذين لا يرون بأساً بمتابعة مشاهد وأخبار الكرة من حين إلى حين، ولا يرون بأساً كذلك إذا انقطعت عنهم تلك المشاهد والأخبار لأيٍّ من الفترات. بعدها، تأتي الطائفة المهتمة بمتابعة كرة القدم بصورة منتظمة، ثم الطائفة المولعة باللعبة إلى ما يشبه الإدمان على متابعة المباريات وأخبار اللاعبين وكل ما يمتّ إلى كرة القدم بصلة، وأخيراً الطائفة المقاتلة – ربما بما يقارب المعني الحرفي للكلمة – من المشجعين والتي هي على استعداد لبذل دمائها حرفيّاً في سبيل الفريق الذي تشجّعه. ومن الطبيعي أن يتخلّل تلك الطوائف ما تمكن الإشارة إليه بكونه طوائف بينيّة عديدة تتضمّن تفاصيل أكثر دقة لكل طائفة من المشجعين.
مهما يكن موقعك الطائفي بين المشجعين، وباستثناء احتمال كونك ضمن الطائفة المبغضة تماماً للّعبة، فأنت قبل غيرك – بمن فيهم نجوم وأساطير اللعبة – مَن يزوّد كرة القدم ماديّاً ومعنوياً بالوقود اللازم لحركة اللعبة وإشعالها بالضجيج والزخم وكل ما من شأنه أن يمنح كرة القدم فرادتها الأسطورية في هذا الزمان الذي هو زمانها من حيث تسيّدها واستبدادها على مستوى العالم الرياضي وليس من حيث الأحقيّة – من مختلف الجوانب الفنية – بالضرورة.
برغم ذلك، فإن الجمهور هو الأقلّ عائداً – من جميع النواحي تقريباً – في سلسلة المعنيّين باللعبة، وذلك باستثناء ما يناله من المتعة التي هي غايته الأولى والأخيرة من اللهاث خلف الكرة وأخبارها كما يبدو بوضوح.
ولكن هل تكفي المتعة وحدها لتبرير اندفاع الجماهير – المحموم والعنيف في كثير من الأحيان – نحو متابعة كرة القدم والتعلّق الهوسي بكل ما يمت لها بصلة؟ في الواقع المتعة دافع قوي وأساسي، ولكن ثم من الدوافع ما قد يبدو أعمق وأشدّ حفزاً عندما يتعلّق الأمر بما أشرنا إليه من نمط هوسي وجارف في الارتباط باللعبة، فالتطرّف في المشاعر عادة أسهل من التوسّط فيها، أي أن اتخاذ موقف مدافع بوضوح وباستمرار عن أحد الطرفين المتقابلين هو أسهل من الوقوف على الحياد أو تأمّل المواجهة بموضوعية من أجل تحديد وجه الحق في كل منعطف للمواجهة واتخاذ الموقف الداعم من ثمّ. وإذا صحّ – جدلاً – أنه من الممكن اتخاذ الحياد وتبنّي الموضوعية بصورة واضحة ومستمرة بالنسبة لما هو مرتبط بالتعبير عن الآراء، فإن خضوع الانفعالات العاطفية لتأثير النظرة الموضوعية مسألة إن لم تكن مستحيلة فهي من الصعوبة بمكان جدّ عظيم.
في “سيكولوجية الجماهير”، نقلاً عن ترجمة هاشم صالح العربية عن دار الساقي سنة 2016، يرى غوستاف لوبون أن: “العواطف التي تعبّر عنها الجماهير سواء أكانت طيبة أم شريرة تتميّز بطابع مزدوج: بمعنى أنها مضخّمة جداً ومبسّطة جداً. وفيما يخص هذه النقطة وغيرها من النقاط نجد أن الفرد المنخرط في الجمهور يقترب كثيراً من الكائنات البدائية. فهو غير قادر على رؤية الفروقات الدقيقة بين الأشياء، وبالتالي فهو ينظر للأمور ككتلة واحدة ولا يعرف التدرّجات الانتقالية. وفيما يخص الجمهور نلاحظ أن المبالغة في العاطفة مدعّمة من قبل الحقيقة التالية: بما أن هذه العاطفة تنتشر بسرعة شديدة عن طريق التحريض والعدوى، فإن الاستحسان والقبول الذي تلقاه يزيد من قوتها إلى حدّ كبير. إن بساطة عواطف الجماهير وتضخيمها يحميها من عذاب الشكوك وعدم اليقين. فالجماهير، كالنساء، تذهب مباشرة نحو التطرف”.
وفي الفصل الثاني من “الآراء والمعتقدات” الصادر في نسخته العربية عن دار “عصير الكتب” سنة 2018، وتحت عنوان “العدوى النفسية” يقول لوبون: “العدوى النفسية هي أمر روحي ينشأ عنه التسليم ببعض الآراء والمعتقدات تسليماً غير إرادي، ومصدرها دائرة اللاشعور؛ ولذلك لا يؤثر فيها أي دليل أو تأمّل، وتشاهد في البشر والحيوانات؛ ولا سيما عندما يكونون في حالة جماعة، وهي من التأثير بحيث تسيطر على التاريخ”.
ما سبق من آراء المفكر الفرنسي ذائع الصيت على سبيل تأكيد الانفعالية العاطفية الخالصة في انحيازيات الجماهير التي عادةً ما تكون متّسمة بالاندفاع/الضخامة، وإن يكن لوبون ينتبه إلى مفارقة أنها في الوقت نفسه مبسّطة جداً. وبصرف البصر عن سياق الجماهير في كتابَي غوستاف لوبون المذكورين، فإن ما سبق ينطبق على أيّة طائفة كبيرة تتخذ من المواقف والاستجابات الجماعية منطلقاً لها. ومعلوم أن التفكير الموضوعي نفسه يغدو خاضعاً تماماً لتأثير الانفعالات العاطفية عندما يكون بأيدي جماعة من أي قبيل تتخذه منطلقاً لأيٍّ من القضايا التي ينعكس تأثيرها على الجماعة، وذلك بغض النظر عن طبيعة تلك الجماعة من حيث مستويات وتجانس الأفراد المنتمين إليها. مهما يكن من الأمر، فإن جماهير الكرة مثال رائع على كل ما سبق مما قيل في حق الجماهير بصفة عامة، خاصة فيما يتعلّق بالمغالاة في الانفعالية وانتقال الآراء بالتأثير شبه المطلق للعدوى النفسية.
ليس مع كرة القدم فحسب وإنما على كل صعيد، تبدو الجماهير تجاه القضية التي تتابعها أشدّ ولاء – أو على الأقل أشدّ براءةً – من الأبطال الذين يديرون تلك القضية، فالأبطال بطبيعة موقعهم متورّطون لا ريب في معرفة تفاصيل القصة أكثر من الجماهير ومطّلعون على خفاياها التي لا تبدو أصلاً للجماهير وهي ترفع أبطالها على الأعناق كونها ترى جانباً واحداً من حقيقة ما يجري، فليس من حق الأبطال إذن أن يغضبوا إذا ألقت بهم الجماهير على الأرض عندما تدرك جوانب الحقيقة الأخرى التي ظلّت محجوبة عنها لأمد طويل أو قصير من عمر القصة/القضية.
ولكن في كرة القدم بصفة خاصة تبدو الجماهير أشدّ ولاءً وهي تمنح أبطالها ونجومها حبها الخالص حتى وهي تعلم حقيقة ما يجري خلف الكواليس، فأجور النجوم “الفلكية” وأنماط الحياة بالغة الرفاهية التي يعيشها أولئك النجوم تعرفها الجماهير ظاهراً وباطناً ولا تشعر بالغيرة أو الغيط بل تباركها حبّاً وكرامة.
لا بأس بذلك، ولكن ماذا عن شدّة التصاق المشجّعين بالنادي إذا كان لاعبو النادي أنفسهم ونجومه البارزون يرحلون عن النادي إلى غيره – وربما إلى خصمه اللدود – مقابل المال، والمال فقط في أغلب الأحيان؟ لماذا تقيّد الجماهير أنفسها بقيدٍ اللاعبون في حلّ منه تماماً؟ ألا يَصدق في هذا الصنيع القولُ الشائع تعجّباً من البعض عندما يصرّ أن يكون “ملكيّاً أكثر من الملك”؟
ما الذي يمنع مشجّعاً عن الانتقال في الدوري الإيطالي من تشجيع نابولي إلى يوفنتوس إلى ميلان، ثم العكس أو إلى أي اتجاه آخر؟ وما الذي يمنع مشجّعاً آخر في الدوري الإنجليزي عن الانتقال من تشجيع مانشستر يونايتد إلى أرسنال إلى ليفربول إلى مانشستر سيتي، ثم مجدداً إلى مانشستر يونايتد مثلاً؟ ولم لا يتقلّب مشجّع في الدوري الإسباني بين ناديَي ريال مدريد وبرشلونة؟ كل ذلك – وهو على سبيل المثال بطبيعة الحال – ليس استناداً إلى أداء الأندية الفني ونتائجها في البطولات المختلفة بالضرورة بل بما يشمل أيّاً من الدوافع حتى ما هو عاطفي محض.
وقد رأينا تحت عنوان “كرة القدم والولاء الوطني” أن الانتماء إلى الوطن نفسه يتغيّر في عالم كرة القدم، ولكن مجدداً مع اللاعبين أكثر مما هو مع المشجّعين.
الانتماء إلى مكان/كيان بعينه مقيّد بزمان محدّد يكون فيه لذلك المكان/الكيان هوية وطابع معيّنان وأشخاص مؤثرون محدّدون يشكّلون معالم وملامح المكان/الكيان. فليس من الضروري إذن إذا تغيّر الزمان أن يستمر الشعور بالانتماء إلى المكان/الكيان نفسه وقد اختلف شكلُه وتحوّل طابعُه وتبدّلت الوجوه التي كانت متواجدة ومؤثّرة فيه.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي ([email protected])