ليست مجرّد ثنائية جذابة بداعي المفارقة المعنوية المدهشة وإنما هي واقع دقيق يشير إلى أبعاد ودلالات نفسية عميقة لدى كل إنسان على كل صعيد تقريباً وليس مع الرياضة وكرة القدم فحسب.
تقوم الحياة على أعمدة من المتناقضات، وتنهار كذلك – في أي مقام – على أنقاض المتناقضات نفسها، نشيد الحياة انطلاقاً من دوافع متضاربة رجوعاً إلى ما يراه كل منّا جديراً بأن يكون باعثه الرئيس، بصرف البصر عن الدوافع التي تتوارى في عقولنا الباطنة والتي قد تكون هي الأصدق، ولكنّنا كما يبدو لا نملك غالباً ما يكفي من الجرأة لمواجهة تلك الدوافع الرابضة في لاوعينا. نحن لا نرى الأمور من زوايا مختلفة ومتناقضة قياساً إلى ما يراه الآخرون فحسب، وإنما قياساً إلى ما نراه نحن أنفسنا خلال تقلّب مواقعنا في المواقف نفسها. إننا نبحث عن مصالحنا بشكل رئيس مهما تكن دعاوانا المحلّقة في سماوات من المثالية لا تفقد بريقها – أو بعضه على الأقل – حتى في ذُرى تفشّي النزعات البراغماتية وشيوع الأحكام الذرائعية.
وعلى الرغم من أن الدوافع والأحكام المنطلقة من المصلحة تشمل عالم كرة القدم بطبيعة الحال، في الوقت الذي تظلّ فيه القيم المثالية ذات جاذبية خاصة بدورها، فإن متناقضة كرة القدم التي نحن بصددها الآن ليست متعلّقة بذلك بل بما يمكن أن يشار إليه على أنه مفارقة العنف والحب، أو مفارقة التدمير والجمال؛ وهي مفارقة (أو مفارقتان متقاربتان) يتورّط في تشكيلها وبطولتها اللاعبون والإداريّون – من كل صعيد – والجماهير على حدّ سواء.
تمتزج متعة الألم ولذة الجمال في كرة القدم امتزاجاً دقيقاً على الصعيدين المعنوي والمادي، الألم من القوة/العنف والجمال من المهارة/التكتيك، وذلك من قبل الجميع: اللاعبين وهم يستعرضون قدراتهم وينفّذون الخطط المعدّة مسبقاً، والإداريين على اختلاف مواقعهم من اللعبة وأدوارهم فيها، والجماهير وهي تستجيب لكل ذلك بل وتشكّل دافعاً لسيناريوهاته المجهّزة سلفاً في معظم الأحيان.
يرى كلاوديو جينتيلي، أحد أعنف اللاعبين في تاريخ الكرة، بحسب تصريح منسوب إليه عرضنا له في مقال سابق، أن الركل – في أكثر معانيه الحرفية عنفاً – هو الأوْلى في اللعبة: “كرة القدم لعبة عنيفة، نحن هنا نقاتل لا نرقص الباليه”؛ ومن المهم الانتباه إلى أن الباليه في تصريح جينتيلي هذا إشارة إلى الرقة تحديداً وليس الأناقة أو الجمال، ما يعني أن المفارقة التي أشرنا إليها قبل فقرة ليست متحققة دوماً، فإشكالية من يميلون إلى القسوة والعنف في كرة القدم هي ابتداءً مع الرقة التي تصاحب المهارة/الأناقة/الجمال وليست ضد المهارة/الأناقة/الجمال بصورة مطلقة.
يقول الكاتب الأرجنتيني إدواردو ساتشيري Eduardo Sacheri عن مباراة بين فريقين محلّيين ضمن قصة له في كتاب “حكاية عامل غرف”، الصادر عن دار مسعى للنشر والتوزيع بأوتاوا الكندية سنة 2018: “يوجد بين الأرجنتينيين شيء أكثر لذة من سعادة الذات وهو تعاسة الآخرين، لذا فإنهم انطلاقاً من استعدادهم لتحقيق هذه الرغبة الفلكلورية استعدوا للمباراة بحماس مدهش، لا يمت بصلة للمركز العاشر البائس الذي كانوا سيودّعون به الموسم. الأمور السيئة لدينا في بيلغرانو كانت محدودة نوعاً ما: لدينا جناحان سريعان ولاعب وسط قدير، لكنْ قلبا دفاع دمويّان بالفطرة. كانت لديهما القدرة على شق والدة أي منهما إلى نصفين لو تجرأت على الاقتراب بالكرة بين ساقيها نحو المنطقة. وفوق كل هذا، عيّنوا بيريث “الأسمر”، عريف الشرطة الفيدرالية، حكماً للمباراة. كان ينظر إلينا جميعاً كمجرمين، إلا إذا ما ثبت وبصورة بيّنة عكس ذلك. كان وجود حكم مثله ليس لديه أي استعداد للتغاضي عن أي ضربة قوية بالساق هو أسوأ شيء قد يحدث لنا. أقسمنا نحن أيضاً على أنه لا يوجد خيار غير النصر، فنحن في النهاية أرجنتينيون أيضاً وطواف الاحتفال في ملعبهم وأمام أنوفهم كان سيصبح شيئاً لا يُنسى”.
في المشهد أعلاه يتجلّى تورّط الجميع في العنف: الجمهور واللاعبين والحكم نفسه، فعلى الرغم من أن صرامة الحكم ضرورية خاصة في أمثال تلك المواجهات، فإن شخصية “عريف الشرطة الفيدرالية” تلك كما رسمها ساتشيري تبدو كما لو أنها توّاقة إلى الاضطلاع بدور يتيح لها المشاركة بقدر أكبر من القسوة يتجاوز مجرّد الصرامة في معاقبة لاعب عنيف.
وفي القصة التالية من الكتاب نفسه، ولكن مع الأديب الأرجنتيني أوزفالدو سوريانو Osvaldo Soriano، نقف مع صورة عنيفة أيضاً تشير بوضوح إلى أن العنف سواء من قبل اللاعبين أو الجماهير كان قاعدة من الصعب على الحكّام – سوى من أمثال “عريف الشرطة الفيدرالية” – السيطرة عليها، بل إن الحكّام أنفسهم ظلّوا لأمد طويل من عمر اللعبة في كافة بقاع العالم – لا سيما في القطاعات الأكثر شعبية – من أبرز ضحايا التهديد المعنوي والعنف البدني المباشر من قبل الجماهير؛ يسرد سوريانو: “أتذكّر مدافعاً كبيراً – بعمر ستة وعشرين عاماً تقريباً – كان دائماً يرتدي شريطاً فوق رأسه ويعلّق ميدالية تحمل صورة العذراء، اعتاد إخبار المهاجمين بأنه حُكم عليه بالموت في لابامبا لإرعابهم. أتذكّره بحنين خاص، على الرغم من أنه دمّر ساقي، لأنه راقبني في اليوم الذي سجّلت فيه أول أهدافي. كان ذلك الرجل يضرب كثيراً وبكل حماس، مثل الأسطوري روبن مارينو نافارو، فأطلقوا عليه لقب “الفأس الشجاع”. كان عنصراً أساسياً في فريق ألتو فايي، وفي هذا المكان وتلك السنوات، حكام قلائل يمكنهم المخاطرة بحياتهم من أجل طرد لاعب”.
والحال كتلك، ليس غريباً إذن ما يشاع عن الرياضة بصفة عامة من أن مؤسساتها الرسمية وكافة المسابقات والبطولات المنبثقة عنها إنما هي بمثابة السماح لوحشية الإنسان الكامنة في طباعه الأصيلة بالتحرّر في غطاء من الشرعية يباركه الجميع حبّاً وكرامة. لا يقتصر ذلك على الملاكمة والمصارعة والفنون القتالية فحسب، بل يشمل أيضاً ما هو على شاكلة كرة القدم من الرياضات الأكثر دهاءً في دسّ سُمّ الركل العنيف في عسل المراوغة الأنيقة.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي ([email protected])