شأن كل الرحلات، يبدو الهبوط الاضطراري واردًا، عندها لا قيمة لـ”ثرثرة” عابرة، أو صراخ لا يثير إلا ارتباكًا فوق ارتباك القائد، ..في الرحلة ليس كل وصول آمن، ولا كل صعودٍ مرهون بأمل ..
(1)
يودعني أبي في مثل هذا اليوم، قبيل رحلة علاج استمرت أسبوعًا كاملًا، دون أية مقدمات تشير إلى أنه اللقاء الأخير، الوداع الممهور بابتسامة الأب، وعبارته ” أجيب لك إيه وأنا راجع “، كان كافيًا لقراءة فلسفة الحياة، التي نريدها “صافية”، ويريدونها “كدرًا”، دون اعتبارات لأحلام بيضاء مؤجلة، أو مبتورة في منتصف الرحلة، كل رحلة..
تقول أمي، التي غادرت برفقته، أنه كان يعيش على أمل العودة، وحين تقرأ الحزن في أعيننا، تستند على استدلالات اللامنطق البعيدة ، يعني “ترضى أبوك يعيش ويتألم قدامك، يا ابني ربّنا بيختار الخير”..تقول ذلك، وهي مدركة تمامًا أن ثمة إجابات روتينية من الطفل حديث العهد بـ”الفقد”، إجابات ملخصة في عبارة واحدة “الحمد لله”.
أن تعرف الفقد مبكرًا، فأنت تسير إلى طريقين، إما تبلد تام، أو خوف مستمر من الفراق، أيّ فراق !
(2)
اتأمل الرحلة، متشابهة الأحداث، كأنها مسلسل يعيد حلقاته في كل مرحلة، أن يرحل الأمل في بداياته، أن تصير معلّقًا طوال الوقت بين واقع بلا بوصلة لمستقبل، وماضٍ يضيف أعباءً فوق عبء الفقد، وحلمٍ كامنٍ يصرخ منفردًا من ألم الانهزام..
لستُ نبيّا، ولا أدرك قيمة انتزاع السند في كل طريق على جانبيه لا توجد إشارات مرور لـ”الحلم”، وليس لي “خديجة”، تخبرني وأنا في أحلك لحظات السواد، والخوف، بأنّ “الله لن يضيعني”، لكنني مضطرٌ في نهاية كل مرحلة إلى التشبث بقيمة الثورة، ذلك الضوء الذي لاينطفيء نوره في القلب، وأشمُّ رائحة الشهداء، فارتدّ بصيرًا بـ”رفاهية” المعاناة، مقارنة بمعاناة من فقدوا آمالهم، وأرواحهم، للأبد.
أن تكون صحفيّا، تلك واحدة من أقسى اختبارات البقاء على قيد الإنسانية.
(3)
صيف 2013، لم تكن فرحتنا بعضوية نقابة الصحفيين قد اكتملت بعد، وقتها نشب خلاف إداري بين رفاق الرحلة الصحفية، وإدارة التحرير بـ”الوفد”، ووضعت اضطراريًا في مواجهة قاسية، واختيار مر، إما البقاء منفردًا، أو الخروج منتصرًا كما يروق لـ”ضميري” لـ”قيمة الوفاء” التي تعلمت، وقتها اخترت رفاق الرحلة، وفي خاطري لذة البدايات، وقسوة الحنين المطلق لأركان المكان، كذلك تقطف ثمرات الحلم مبكرًا في كل مرة قبل نضوجها !.
فيما بعد “حضرة الغياب” المتلازمة على مدار العامين الماضيين، كان القرار “إراديًا”، وباللاشعور، رفض بناء علاقات إنسانية بهذا العمق، داخل أية مؤسسة، وضرورة الغياب عن الأماكن، تجنبًا لقسوة ما تحمله اختبارات البقاء، والرحيل، في فؤاد لم يعد يتسع لأية انكسارات أخرى، كأي مريد لـ”ميدان التحرير” يعيش بداخله نصف حياة، ويرسو على شاطيء “الانعزال”، ولو في حضرة المئات من البشر.
لم تعد إشكاليتنا الآن في فرص الوصول إلى تحقيق الأمل، إنما الإشكالية تكمن في الإجابة على السؤال الصعب: أين يوجد الأمل ؟.
(4)
اشترط سيدنا الخضر على صاحبه “سيدنا موسى” قبل بداية رحلتهما معًا، ألا يسأله عن شيء حتى يُحدِثَ له منه ذكرًا، فانطلقا ، وعند الفراق، لم يترك الأستاذ صاحبه في جدلية الأسئلة، فأخبره بتأويل ما يستطع عليه صبرًا،..يزول وجع الفراق أحيانًا، بمعلومية أسبابه !
يدير الأستاذ وجهه، ويقبض على كلماته، فتخرج متأزمة، كأنها تمر من ثقب ضيق، وتخفت ابتسامته على غير عادتها، ثمة شيء ما يريد أن يخفيه، يتسق تمامًا مع درايتي بما يريد أن يخفيه، ..الأستاذ يؤكد نظرية الحياة، لاشيء يكتمل، والفقد دائمًا يأتي عند نضج الاحتياج !
في “مصر العربية”، تشكلت ملامح جديدة لتجربتي الخاصة، منحتني لقب “كاتب”، يثني بعض الناس على كتاباته، ويسأله البعض أحيانًا حين يغيب:” لماذا لايكتب؟”، وحين يتسع أفق الكتابة، تجيء الرياح بما اشتهت الرحلة، أن تصير وحدك باحثًا عن شيء ما لم يأت بعد، وقد لا يأتي !.
حين يشتّد لهب جمر الثورة والفكرة على أيدي القابضين، فإننا نلتمس عذرًا لمن يلقيه وينصرف، شرط ألا يلقيه في وجوهنا !
(5)
مرة أخرى، وليست أخيرة، نعاود البحث عن محطة على طريق الشتات، تسعف ولو قليلًا، ما أجهضته سنوات الفقد، على أمل الفقد بعد متسع من السير على شوك الباحثين عن الضمير..
“شكرًا لأنك تحاول أن تكون “عادلًا”، ستتعب، لكنك في نهاية اليوم تستطيع أن تنام”..يسري فودة في رسالة بعد مقال ” كن يسري فودة وأجب عن السؤال “.