البذاءة لا سقف لها، هكذا سهر المصريون على وصلة أطلقوا عليها عفوا عفوا من الممكن أن تضيف عددا لا نهائيا من عفوا «برنامجا»، حتى اقتربنا من الخامسة صباحا، وهم لا يتابعون شيئا سوى تنويعات على الإسفاف.
لن أتحدث إليكم عما ما تعرفونه وتابعتموه، فهو مع الأسف لم يغادرنا ولايزال ماثلا أمامنا، يؤكد حالة التردى التى وصل إليها حال الإعلام المصرى، فى حرصه على استضافة من تعودوا على استباحة الخوض فى أعراض الناس رجالا ونساء وآباء وأمهات، وائل يستعين بهؤلاء أحيانا عندما يريد أن ينتصر لقضية أو لضمان تحقيق درجة كثافة مشاهدة مرتفعة لتحقيق مزيد من الإعلانات ويناله على المقابل من أرباحها جانبا، إنها قضية تستحق مساحة قادمة، حيث إنه الفساد بوجهيه السينمائى والإعلامى.
سأتوقف معكم هذه المرة أمام ظاهرة «السبكية» وما أدراك ما السبكية، وهما ليسا فقط الشقيقين محمد وأحمد، حيث إن هناك قبيلة تحمل نفس اللقب تواجدت بكثرة فى الحياة السينمائية خلال السنوات الأخيرة، بل صارت السينما الآن لا تُقدم فى القسط الوافر منها سوى ما ينتمى جينيا للسبكية.
فى كل مكان أتواجد فيه صرت معتادا على هذا السؤال.. هل يرضيك ما يقدمه السبكية؟ الاسم أصبح ماركة مسجلة على التردى والفساد والانحراف، وكأنهما «ريا وسكينة »، الشقيقان يقدمان أفلاما تجارية هذه حقيقة، والقسط الوافر منها ردىء تلك أيضا حقيقة، ولكن بين التجارى والردىء تجد أفلاما أخرى تحمل لغة سينمائية ووجهة نظر فكرية مثل «كباريه» و«الفرح» و«ساعة ونص» و«واحد صحيح»، بل لهما فيلمان هذا العام مرشحان بقوة للاشتراك رسميا فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى «الليلة الكبيرة» و«من ضهر راجل»، أى أنهما سوف ينقذان وجه السينما المصرية التى تعانى كثيرا فى البحث عن فيلم لائق لتمثيلنا أمام العالم، أيضا لدى السبكية مشروع سينمائى مع المخرج يسرى نصرالله اسمه «الماء والخضرة والوجه الحسن» ومن المؤكد أن نصر الله لن يقدم الوصفة السبكية.
الذى يجرى فى الحياة السينمائية من تراجع إنتاجى كمى وكيفى هو الذى أدى إلى ألا نجد على الخريطة السينمائية سوى شركة واحدة تنتج وتتحكم فى حال السينما، وتُقدم ما يحلو لها، ليس لدينا البديل القادر على إحداث التوازن فى السوق لنجد تنويعات متعددة هنا وهناك تراهن على مساحات مختلفة، البعض يعتقد أن الفن لن يتقدم سوى بمصادرة الردىء رغم أن الرداءة كانت وستظل نسبية، أحمد عدوية وأغانيه كانت فى السبعينيات هى عنوان الرداءة ويكفى أن تقول «السح الدح امبوه» لكى تجد نفسك وقد وصلت إلى ذروة الإسفاف والتردى، الزمن يملك قوة سحرية لإحداث التوازن بتقديم أيضا الجيد مع «السح» و«كركشنجى دبح كبشه» و«الطشت قاللى» كانت أم كلثوم تغنى «إنت عمرى» وعبدالحليم «قارئة الفنجان» ونجاة «الطير المسافر»، بعد مرور السنوات صارت الذائقة الشعبية تتسامح مع «السح» و«الطشت».
الدنيا تتوازن بفعل منظومة قادرة على تقديم كل الأطياف، حتى الفنان الواحد نجد بداخله التناقض، موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب يغنى فى الأربعينيات «فيك عشرة كوتشينة فى البلكونة لاعبنى عشرة إنما برهان» فهو يحفز الناس للعب القمار، وبعدها تستمع إليه وهو يدعوهم للجهاد لتحرير فلسطين «أخى جاوز الظالمون المدى» الإبداع لديه قوة ذاتية لتصحيح الإبداع.
فى الماضى كنا نملك حق المصادرة، الآن صارت المصادرة تنتمى إلى زمن الديناصور المنقرض، وهو بالفعل ما حدث قبل عام ونصف عندما قرر رئيس الوزراء السابق المهندس إبراهيم محلب مصادرة فيلم «حلاوة روح»، كان رأيى الذى أعلنته وكتبته أننا بصدد فيلم يصلح عنوانا للقُبح، ولكن استخدام سلاح البتر لن يقضى على القُبح خاصة مع انتشار «الميديا»، والحل هو أن يجد الناس العمل الفنى الموازى القادر على إحداث التوازن، الإجراءات العنيفة لن تُسفر سوى إلى مزيد من الشغف بالرداءة، لماذا لا نثق أكثر بالناس؟، صادرت الدولة من خلال لجنة التظلمات التابعة لوزارة الثقافة الشريط السينمائى، بحجة حماية المجتمع، متجاهلين أنه قد تم فطام الجمهور على الانتقاء والتلقى الصحيح، قبل مصادرة «حلاوة روح» شاهدت الفيلم فى السينما القريبة من منزلى لم يتجاوز عدد الجمهور أكثر من عشرة، بعد المصادرة تهافت الناس عليه عبر «النت»، ثم أقام المنتج دعوى قضائية وحكم القضاء لصالحه وعرض الفيلم كاملا، لكن الناس لم تأت، اضطرت موزعة الفيلم إسعاد يونس إلى رفع الفيلم نهائيا بعد أسبوع واحد.
الدنيا تغيرت ليس دور الدولة أن تقول لنا «كل هذا ولا تأكل ذاك» علينا أن نربى الناس على حرية الاختيار، هم أحرار فى الانتقاء، فى العالم كله هناك تصنيفات عُمرية للأفلام تلتزم بها الأسرة وأصحاب دور العرض، طبقنا التصنيف العمرى فى عدد من أفلام عيد الفطر الماضى مثل «أولاد رزق» و«سُكر مر» ولكن لم تلتزم الأسرة ولا دار العرض لأننا لم نزرع لديهم ثقافة الالتزام. تلك هى المشكلة.
لن نتوقف كثيرا أمام واقعة فساد إعلامى، حيث كانت هناك تجاوزات من مقدم البرنامج نفسه وعدد من ضيوفه، صحيح أن السبكى وصل إلى ذروة التجاوز ولكننا يجب أن ننظر إلى القضية بزاوية أوسع، مقدم البرنامج يصف منتجا بأنه بلطجى فقرر «إن اللى يرشه بالميه يرشه بالدم»، تجاوز لا يمكن التغاضى عنه، لدينا منتج ومذيع وضيوف كل منهم لعب دور البطولة فيما شاهدناه من إسفاف وتردٍ، كنا نشكو من فيلم اسمه «حلاوة روح» فصرنا نعانى من «بذاءة برنامج».