نُعلي من قيمة الطيبة في أدبيات تنشئتنا وعلى اختلاف محافلنا الأخلاقية والاجتماعية ونشعر بالراحة لوجود الطيبين من حولنا على كل صعيد، لكن كم منّا يحبّ أن يوصف بالطيبة المجرّدة التي هي في الواقع أشدّ إيماءً إلى الغفلة منها إلى استحضار دلالات نقاء السريرة الخالصة؟
مهما تكن إجابتنا على السؤال أعلاه، نتجاوز تلك الإجابة لطرح السؤال موضوع هذا المقال: هل من الممكن أن تمضي حياتنا بصورة مثالية كما نشتهي/ندّعي أم إن ثمة دوراً أساسياً للشر وللموسومين به في حياتنا؟ لكن قبل كل ذلك، ربما كان علينا أن نقف قليلاً إزاء ما نقصده بالخير/الطيبة وبالشر.
يقول برتراند راسل Bertrand Russell، ضمن مقالة له بعنوان “الناس الطيبون” نقلاً عن كتاب صدر عن دار ممدوح عدوان بدمشق عام 2015 ضمّ مجموعة من مقالات الفيلسوف البريطاني الشهير ترجمها إلى العربية الدكتور عدي الزعبي تحت عنوان “ما الذي أؤمن به” (وهو عنوان مقالة طُبعت مستقلة ككتاب صغير سنة 1925)، يقول راسل: “أريد أن أكتب مقالاً في مدح الناس الطيبين. ولكن قد يرغب القارئ أولاً في أن يعرف من هم الناس الذين أعتبرهم طيبين. قد يكون صعباً أن نصل إلى صفتهم الجوهرية، لذا سوف أبدأ بتعداد أنماط محددة تندرج جميعها تحت ذلك العنوان. العمات العوانس طيبات حتماً، بخاصة طبعاً إن كنّ غنيّات؛ كهنة الدين طيبون، باستثناء تلك الحالات النادرة عندما يفرون مع فتاة من الكورس إلى جنوب إفريقيا بعد أن يدّعوا بأنهم انتحروا. في أيامنا هذه نادراً، وآسف لقولي هذا، ما تكون الشابات طيبات… لا يجب الافتراض أن جميع الناس الطيبين هم من النساء، بالرغم من إنه لأمر شائع أن تكون المرأة طيبة أكثر من الرجل. بغض النظر عن الكهنة، يوجد العديد من الرجال الطيبين. على سبيل المثال: أولئك الذين جمعوا ثروات ضخمة وتقاعدوا الآن كي ينفقوا أموالهم في أعمال البر والإحسان، معظم القضاة أيضاً رجال طيبون بشكل لا مفر منه. ولكننا لا نستطيع القول إن جميع المساندين للقانون والنظام رجال طيبون… الميزة الأساسية للناس الطيبين هي ممارستهم الجديرة بالثناء لتحسين الواقع… يرتاب الناس الطيبون كما ينبغي تماماً بالمتعة أينما شاهدوها. هم يعلمون أن ما يزيد الحكمة يزيد الحزن، ويستنتجون أن كل ما يزيد الحزن يزيد الحكمة. لذلك فهم يشعرون أنهم عندما ينشرون الحزن فإنهم ينشرون الحكمة، وبما أن الحكمة أغلى من الياقوت، فشعورهم مبرر بأنهم يسدون خدمة بأفعالهم”.
لا تخفى نبرة التهكّم في كلام راسل، وهو على الأرجح تهكم ممزوج بمرارة قاسية لما لاقاه من تبعات صداماته مع المجتمع والسلطة على أكثر من صعيد إلى حدّ أن أودِع السجن وأثر ذلك على منصبه كأستاذ في جامعة كامبردج المرموقة.
لكن نبرة التهكّم تلك ضرورية كي نقف من وجهة نظر فيلسوف معاصر ومصادم على حقيقة الطيبة/الخير والشر وتعريف كل منهما والحدود الفاصلة بينهما، مع ملاحظة أن ذلك يبدو مراوغاً إلى أقصى الحدود. المقتطف التالي من الموضع نفسه بالغ الدلالة على ما نشير إليه من مراوغة/زئبقية الثنائي الذي يكاد ينبني عليه صراع الوجود: “يتم تعيين الناس في سلم الطيبة تبعاً لقوة ألسنتهم. إذا تكلم “س” ضد “ع”، وتكلم “ع” ضد “س”، فعادةً ما يرى المجتمع أن أحدهما يمارس واجبه الاجتماعي، بينما الآخر يدفعه الحقد، والذي يمارس واجبه الاجتماعي هو الأكثر طيبة بينهما. وهكذا مثلاً، مديرة المدرسة أكثر طيبة من المدرّسة، ولكن السيدة في مجلس المدرسة أطيب من كليهما. الثرثرة الموجهة جيداً قد تسبب بسهولة خسارة الضحية لمصدر عيشه أو عيشها؛ وحتى عندما لا نصل إلى هذه النتيجة المتطرفة، فقد يتحول الشخص إلى منبوذ، لذا، فهي قوة عظيمة للخير، ويجب علينا أن نكون شاكرين لأن الناس الطيبين يسيطرون عليها”.
يبشِّر بعدها راسل بأن زمن الطيبين قد أوشك على النهاية، وإذا كان الرجل يسخر من تعريف المجتمع للطيبة حينها ويراه تعريفاً ساذجاً، أو على الأرجح خبيثاً، بل وشريراً، فإن ذلك هو مكمن المفارقة. فإذا جاز أننا الآن – بعد مرور حوالي قرن كامل على آراء الفيلسوف العظيم – نشهد عصر انقضاء الطيبة بحسب ما كان يريده برتراند راسل، فإن آخرين لا يزالون يرون أن الطيبة “الحقيقية” هي تلك التي كانت بحسب ذلك الزمان “الجميل”، والتي كان راسل يتهكّم عليها، وأننا الآن لا نعيش سوى زمان مناقض تماماً للمراد من الطيبة “الحقيقية” الجديرة بالاقتفاء، هذا فضلاً عن أولئك الذين سيوافقون على معنى الطيبة أيّاً كان بحسب ما يراه أيّ متحدّث، لكنهم لا يرونها جديرة بأن يُلقى لها بالٌ على أية حال.
لنفترض إجماعاً، أو ما يشبه الإجماع، على أفعال بعينها لا يجادل الناس كثيراً في كونها شراً، كإيقاع الأذى بالآخرين أو النميمة الفاحشة أو التخلي عن صديق من أجل مصلحة شخصية. بل لنأخذ ما هو أقل خطراً من ذلك من الآثام كالتلكّؤ في مساعدة صديق عند الحاجة أو تخطي القانون من أجل منفعة يسيرة خاصة أو التجاوز عن قواعد العمل من أجل تمرير معاملة لقريب أو صديق أو حتى خوفاً من عاقبة غير سارة محتملة. ما حجم تلك التجاوزات/الشرور في حياتنا؟ هل كان ممكناً، وفق التجربة الذاتية لأيٍّ منّا، أن نتخلص من تلك التجاوزات/الشرور التي وقعنا فيها، أو على الأقل التي وقعت أمامنا وصمتنا، لو عاد بنا الزمن إلى الوراء؟ هل بإمكاننا أن نقطع جازمين بأننا لن نقترف شرّاً من ذلك القبيل – عظُم أو صغُر – مستقبلاً؟
يبدو أن الإجابة على كل ما سبق ليست لا فحسب وإنما لا كبيرة، فبغض البصر عن المبادئ التي يمكن أن يزعمها أيٌّ منّا لنفسه، لا يبدو التخلّي/الخيانة – على سبيل المثال – في كثير من المواقف شرّاً لا بد منه فحسب، وإنما هو أقرب إلى أن يكون كالمباريات التي يتسابق إليها الناس بدرجات وأشكال متفاوتة، إمّا استباقاً إلى مصلحة ذاتية وإمّا درءاً لخيانة أو تخلٍّ متوّهم يخشى كلُّ طرف أن يبادر الطرف الآخر إليه فيخدعه.
من ناحية ثانية، تعود مراوغة/زئبقية التعريف لتطلّ بقوّة، إذ لن يعدم أيٌّ من الناس سبباً للتخلّي المبرَّر أخلاقياً عن الآخر في موقف ما، وقد لا يكون التبرير أبعد من أن الوقوف إلى جوار صديق ينشد المساعدة ليس إلزامياً بحال بقدر ما هو أمر منوط بقدرة أو حتى رغبة الطرف الآخر في الالتزام بمدّ يد العون، فلا يُعدّ التخلي عن صديق في وقت ضيق لدى البعض والحال كتلك سوى خيار شخصي لا يصل إلى تعمّد إلحاق الأذى مع سبق الإصرار.
لنبتعد مجدداً عمّا هو نسبي ونعود إلى ما (نعتقد أننا) نتفق على كونه شرّاً بأيٍّ من الدرجات أو الأشكال. ألا يُعتبر الشر “الخالص” مسألة لا مناص منها، ليس فقط من حيث هو أمر واقع لتكملة أحد أشهر ثنائيات الوجود بل لكوننا نبدو في حالة مستمرة من الحاجة إلى التجاوزات في حياتنا بدرجة أو أخرى مهما تكن مرونة القوانين التي نبتدعها؟
حتمية الشر في قلب صراع الوجود تعني حتمية وجود الأشرار، مع ضرورة التذكير مجدداً بأن درجات وأشكال الشر تتفاوت ابتداءً من المضايقات التي يجوز وصفها بالسذاجة وانتهاءً إلى تعمّد المثابرة في إلحاق الأذى الفادح إلى حد تحقيق الدمار الشامل على أي صعيد. وعليه فإن الأشرار لا ريب أشكال ودرجات، وذلك بتجاوز معضلة فض الاشتباك بين الشر والخير – بغرض التعريف لا الإصلاح – التي نجد أنفسنا محاصرين إزاءها في كثير من الأحيان.
نحتاج الأشرار على اختلاف أشكالهم وتفاوت درجاتهم من الشر بقدر ما نعجز عن تحقيق حياة مثالية فنسعى إلى الالتفاف على القوانين التي نضعها من أجل تحقيق منفعة نوهم أنفسنا بأنها عامة أو مصلحة تخصّنا لا نقوى على المجاهرة بها في معظم الأحوال.
داخل كلٍّ منّا شرير، صغير أو كبير بحسب طبيعة أنفسنا الأمّارة بالسوء، يمارس دوره من الشر بشكل أو بآخر، مع تفاوت درجاتنا في ذلك تفاوتاً عظيماً. والحال كتلك، ألا يبدو في كثير من الأحيان أن الأشرار الخالصين – الذين ينهضون عنّا مراراً بأدوار لا مناص من أن يقوم بها أحد في المجتمع – هم الأكثر جرأة بيننا جميعاً؟
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: [email protected]