"أيّاً يكن الشخص الذي نحت مصطلح "الحقيقة العارية" فهو قد أدرك العلاقة الهامة بينهما. العري يصدم جميع العقلاء، وكذلك الحقيقة. ليس للحقل الذي نهتم به أهمية كبيرة، لأنك ستجد عاجلاً أن الناس الطيبين لن يعترفوا بالحقيقة في ضمائرهم. كلما جعلني سوء الحظ أسمع قضية ما في المحكمة أملك حولها معرفة مباشرة، يصدمني الواقع: لا تستطيع أية حقيقة أن تخترق هذه البوابات المهيبة. الحقيقة التي تدخل المحاكم ليست الحقيقة العارية بل الحقيقة وقد اكتست بلباس المحكمة، وأخفت كل أعضائها غير اللائقة".
استمراراً في الإشارة إلى مقالة "الناس الطيبون"، نقلاً عن الكتاب الصادر عن دار ممدوح عدوان بدمشق عام 2015 لمجموعة من مقالات برتراند راسل Bertrand Russell تحت عنوان "ما الذي أؤمن به"، نرى في هذا الموضع من الاقتطاف أن راسل ينوّه بمَن نحت مصطلح "الحقيقة العارية" أيّاً يكن ذلك "النحّات" البارع، وبدورنا ننوّه بما أكمله الفيلسوف البريطاني الشهير على هذا الصعيد حين تلقّف المصطلح وكساه صورة بلاغية عميقة الدلالة تؤكّد أن الحقيقة يجب أن ترتدي ما يناسب المقام (المحكمة كما في السياق المذكور) من أنواع اللباس قبل أن يُسمح لها بالدخول، ومن شروط اللباس الرسمي للحقيقة في أي محفل أن يستر أعضاءها غير اللائقة بحسب ذلك المحفل.
وإذا كان راسل قد تحفّظ على سحب صورته البلاغية تلك لتشمل كل الجرائم فاستدرك مكملاً: "أنا لا أقول إن ذلك ينطبق على الجرائم الصريحة، كالقتل والسرقة، ولكنه ينطبق على أية جريمة يدخل فيها عنصر الأحكام المسبقة، كالمحاكمات السياسية، أو محاكمات الدعارة"، فإننا نتحفّظ بدورنا على هذا الاستثناء لنؤكّد أن تحفّظ الناس تجاه الحقيقة العارية يشمل كل أنواع المحاكمات بدرجة أو أخرى، بل يشمل كل ما في الحياة على أي نطاق بشكل أو بآخر.
برتراند راسل يسترسل على كل حال ليبيّن بصراحة دقيقة أبعاد التحدّي الذي يواجهه من يفكّر في الإشارة إلى ما لا يراه الناس مقبولاً: "أعتقد أنه فيما يخص هذه الأمور، إنجلترا أسوأ من أمريكا، لأن إنجلترا قد وصلت إلى الكمال في التحكم، اللامرئي تقريباً واللاواعي جزئياً، بكل الأمور المزعجة عن طريق مشاعر الحشمة. إذا أردت أن تشير في المحكمة إلى أية واقعة لا يرى الجمهور أن الإشارة إليها مقبولة، ستجد أن ذلك مخالف للقانون، وأنه ليس فقط القاضي ومحامي الخصم، بل محاميك أيضاً لن يقبل بالكلام عنها".
نزولاً بالحقيقة العارية من عالم الفلسفة والتناول المعقد نسبياً - بواسطة فيلسوف مثل برتراند راسل - إلى عوالم أقلّ تعقيداً وأشد اكتساحاً بكثير من قبل الجماهير (رغم أن اقتطافنا عن الفيلسوف الكبير هنا جاء ضمن مقالات توجّه بها الرجل إلى عامة القراء وليس خاصة المثقفين وعشاق الفلسفة)، نزولاً بالحقيقة العارية على هذا النحو نرى أن التحدّي ينتقل معنا إلى العوالم المسماة بالافتراضية، والتي أرى أنها الآن باتت أكثر واقعية من الواقع التقليدي، أو – بقدر أشدّ من الدقة وبعيداً عن المغالاة – أصبحت تشكّل واقعاً موازياً لا ينافس الواقع التقليدي فحسب بل يؤثِّر فيه ويعيد تشكيله.
العوالم الافتراضية – بحسب التسمية المعروفة – لم تقدّم جديداً ذا بال على صعيد مواجهة الحقيقة وإنما تكاد تكون نقلت تعاملنا مع الحقيقة نقلاً حرفياً من الواقع التقليدي إلى "الواقع الافتراضي"، نقلت كل التفاصيل بشقيها الإيجابي والسلبي بصفة عامة، وذلك بحسب أية مرجعية يمكن أن يستند إليها أيٌّ من المقيِّمين على أي صعيد.
تحت العنوان الفرعي "حقيقة أصدقاء الفيسبوك"، يقول سيث ستيفنز - دافيدوتس SETH STEPHENS – DAVIDOWITZ في كتاب EVERYBODY LIES، الترجمة العربية عن الدار العربية للعلوم ببيروت في نوفمبر 2018 بعنوان "الكل يكذب: البيانات الضخمة والبيانات الحديثة وقدرة الإنترنت على اكتشاف الخفايا"، يقول: "الفيسبوك هو ميدان للتفاخر الرقمي بين الأصدقاء، وفي عالم الفيسبوك، يبدو أن الشخص العادي سعيد في زواجه، ويقضي عطلته في منطقة الكاريبي، ويتصفح مجلة أتلانتيك، وأما في العالم الحقيقي! فهناك الكثير من الغاضبين، والذين ينتظرون في الصفوف أمام كاشيرات المحلات، ليختلسوا النظر إلى مجلة ناشيونال إنكوايرر متجاهلين المكالمات الهاتفية من زوجاتهم اللاتي هجرنهم منذ سنوات، وفي عالم الفيسبوك، تبدو الحياة الأسرية مثالية! أما في الحياة الواقعية، فالحياة الأسرية فوضى! وقد تزداد أحياناً هذه الفوضى عندما يندم بعضهم على إنجابهم الأطفال، وأيضاً في عالم الفيسبوك، يبدو أن كل الشباب قد أمضوا وقتاً رائعاً ليلة السبت! بينما معظمهم في العالم الحقيقي قابعون في منازلهم بمفردهم، يشاهدون بشراهة كل ما يُعرض على موقع نيتفليكس!".
يتساءل المؤلف بعدها: "هل في وُسعنا التعامل مع الحقيقة؟"، ويجيب بما مجمله "نعم"، بل يزيد ببيان العديد من إيجابيات التعامل مع الحقائق الصادمة التي يسفر عنها التنقيب في قواعد البيانات الضخمة على الإنترنت.
بعيداً عن إجابة سيث ستيفنز - دافيدوتس وسياقه الخاص بقدرة الإنترنت على اكتشاف الخفايا، نجيب بدورنا: نعم، نستطيع أن نتعامل مع الحقيقة أياً كانت، ولكن من خلال ستر عورتها بحسب السياق، ثم إلباسها من الثياب ما يليق بالمحفل الذي نريد من خلاله التباهي بها أمام الملأ.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])