يظهر أحمد فهمي نضجاً غير عادي نهائياً في عمله الجديد "سفاح الجيزة"؛ لقد نضج الفنان الشباب أخيراً. إنه يظهر إداءاً ستانسلافسكياً مرتفعاً في شخصية "قاتل" مدغم المشاعر، لا يظهرها إلا لماماً، يقتل بهدوءٍ بالغ، ويتحرك بنفس سيكوباثي مرتفع. أحد الثلاثي الشهير والذي ضمه مع شيكو وهشام ماجد، الذي صنع أعمالاً متقدمة على جيلهم مثل سمير وشهير وبهير وسواها، عرف من أين تؤكل الكتف، وفهم أنه بالكوميديا وحدها لايستطيع أن يتقدّم في عالم عربي لايرى الكوميديا إلا تهريج لا أكثر. هو أدرك أنه حتى زعيم الكوميديا المصرية عادل إمام، صنع شخصيته كمؤدٍ لا عبر الكوميديا فحسب، بل أعمالٍ شديدة الواقعية والجدية من نوع "الحريف"(اخراج محمد خان) و"المشبوه"(إخراج كريم عبدالعزيز) و "الغول"(إخراج سمير سيف).
في العمل الجديد والذي أخرجه هادي الباجوري، يؤدي فهمي بمهارة غير اعتيادية حتى عليه هو نفسه. نقلت هنا الزاهد زوجته عنه من خلال تغريدة قصيرة انه كان يعود إلى المنزل منهكاً لا من وقت التصوير بل من الشخصية التي كان يرتديها. هذا هو ببساطة أصل العمل الفني الإدائي، خصوصاً إذا ما كان method acting. للمدرسة المصرية أسلوبها الخاص في الإداء التمثيلي، هذا كونته عبر سنواتٍ طوال من العمل الدرامي، لكن أحمد فهمي مع مجموعة من الممثلين الجدد بدأوا بزيادة الحرفة ورفع المستوى عبر طرقهم الخاصة. لاريب أن الفنان المصري أدرك أنَّ عمله ككاتب ومؤلف وحتى كمؤدٍ كوميدي لايكفيان لرفعه إلى المكان الذي يعتقد بأنه يشبهه درامياً. من هنا جاءت شخصيته في هذا المسلسل بمثابة طوق النجاة: هو دخل إلى الشخصية كما يجب أن يغوص بها. تخلى عن ملامحه الذاهلة المعتادة واستبدلها بملامح سهلة طيعة everyday person لكي تصبح شخصية بطله "جابر" معتادة يومية، كما تظهر في لحظات الحياة اليومية/العادية لبطله؛ حينما يقابل والدته، جيرانه، زملائه في العمل: إنه شخصٌ عادي للغاية، شخصٌ تراه يومياً. بنفس الوقت أضاف إليها ملامح سريعة التغيّر والتبدل، مذكراً بإداء الماهرين نيكولاس كايج وجون ترافولتا من فيلم Face-off؛ حينما أظهرا وجوهاً متعددة لذات الشخصية. يغير فهمي ملامح الشخصية في ثوانٍ فحسب، فمثلاً في مشهد زيارته لصاحب المصنع (يؤدي الدور صلاح عبدالله) في السجن، يستخدم ملامح وجهه وصوته لتغيير شخصيته إلى ثلاث شخصيات بسرعةٍ بالغة: يتنقل من المتسامح اللطيف الطيب، إلى اللئيم المنتقم، ثم إلى المتشفي الغاضب.
كل هذه الملامح المنهكة والمتعبة لأي ممثل يستخدمها بسهولة بالغة مظهراً كم هي "عدة الممثل" لديه مرتفعة. ويشرح دينيس ديدرو في نظريته مفارقة الممثل ( Paradoxe sur le comédie) والتي أوردها في كتاب نشره في العام 1830، أن "الممثل الأكثر صدقا هو الذي يمتلك قدرةً على أن يعبر عن شعورٍ لا يحسه إطلاقا؛ هذا الأمر ممكن أيضاً أن نورده هنا، لقد درس فهمي الشخصية بين يديه كما هو الظاهر، واستطاع كما يشير ديدرو "أن يحس قليلاً وأن يعبر كثيراً وللغاية"، ففي مشاهد القتل في العمل، نجد ملامحه تتغيّر كما لو أنه يلبس روحاً غير روحه في جسدٍ هو جسده: إنه قاتل طبيعي، قاتلٌ بالفطرة، قاتل كما لو أنه قتل كثيرين من قبل. هنا مزج بين اللغة الستانسلافسكية حينما يشير الروسي لصنعة الممثل وأدواته: "ليكون تقمصكم صادقا، يجب أن يكون مدققا، متناسقا ومنطقيا. يجب عليكم أن تفكروا، و تصارعوا، و تشعروا، وتتحركوا في حوار دائم مع شخصياتكم". صحيحٌ أن ديدرو يرفض الغوص إلى هذا العمق ويفضل أن يكون الغوص خفيفاً والعمل أكثر بكثير، إلا أنهما يتفقان على نطاق العمل والأدوات وطريقة الإخراج التي يعطيها الممثل للشخصية التي بين يديه.
يستعين فهمي إضافة لكل هذا لإكسسوارات إدائية مهمة لتعزيز الشخصية بين يديه: ثيابه، شاربه المشذب بعناية، رنة هاتفه والتي يمكن الحديث عنها مطولا، إذ إنها "دينية" توحي بتدين صاحبها وهذا يعطيه غطاءً من نوعٍ ما؛ ماذا عن سلوكه الطيّب واللطيف للغاية مع جيرانه؟ إنه جزءٌ لا يتجزأ من اكسسوارات الشخصية: إنه يحضر الدواء الذي يحتاج إليه جاره حتى من دون أن يطلب الجار ذلك. إنه "طيبٌ للغاية" وجاره يعجز عن شكره. هل من الممكن أن يكون شخصٌ طيبٌ إلى هذا الحد قاتلاً؟ مستحيل إن سألت الجار ذلك. من هنا فإن التحضير الذي بذله فهمي لبناء الشخصية بدا ذا عمقٍ مرتفعٍ قائمٍ على دراسة شاملة لكيفية لا حركة الشخصية فحسب، بل أيضاً مرتبط بما هو حول الشخصية: ماذا عن الطبخ؟ إنه يطبخ ويقتل في آنٍ معاً، كما لو ان الفعلين مترابطين. إنهما فعلان مرتبطان في عقل هذه الشخصية، إنه بحاجة لأن يجعل عقله يهدأ، وهذه سمةٌ أخذها/استعارها فهمي من أفلام "القتلة" المشهورين: فنجد مثلاً هانبيال ليكتر من "صمت الحملان" يستمع للموسيقى الكلاسيكية وهو يقتل، وهو نفس ما يقوم به الدكتور روبرتو ميراندا وهو يعذب ضحاياه في أقبية التعذيب في فيلم "العذراء والموت". هذا الفعل "الخارج" قد يبدو غريباً بالنسبة للآخرين أما بالنسبة للشخصية السيكوباتية، فإنها بحاجة لتخريج ما يعتمل في داخله بطريقةٍ ما، إذاً ما المانع أن يكون هذا التخريج "فناً" أو "موسيقى" أو حتى رياضة كما في "السايكو الأميركي". إنه كائنٌ "تكيكي"، مثلاً في الحلقة الرابعة حين حديثه مع ضابط البوليس (باسم سمرا) يلعب لعبة "اسأل بعيداً"، بمعنى أنه كي لايحكي في موضوع "التحقيق" فإنه يسأل الضابط عن "إبنه" وعن صورة "إبنه" الموجودة على مكتبه؛ وبدلاً من أن يكون الضابط هو الذي يسأل ويحقق، يصبح بتكتيك ذكي هو الذي يجيب، فينهي التحقيق بسرعة بالغة.
باختصار؛ بذل أحمد فهمي جهداً يحسب له كثيراً، وبحال راكم عليه فإن المشاهدين سيكونون أمام "وحش" تمثيل حقيقي قادر على "ارتداء" أي شخصية، بسهولة بالغة وبمهارة شديدة.