"إنني مقدم على مشروع لم يسبق له مثيل، ولن يكون له نظير، إذ أبغي أن أعرض على أقراني إنساناً في أصدق صور طبيعته، وهذا الإنسان هو: أنا! أنا وحدي. فإنني أعرف مشاعر قلبي، كذلك أعرف البشر، ولا أراني قد خلقت على شاكلة غيري ممن رأيت، بل إنني لأجرؤ على الاعتقاد بأنني لم أخلق على غرار أحد ممن في الوجود، وإذا لم أكن أفضل منهم، فإنني، على الأقل، أختلف عنهم، ولن يتسنى البت فيما إذا كانت الطبيعة قد أصابت أو أخطأت؛ إذ أتلفت القالب الذي صاغتني فيه، إلا بعد قراءة هذه الاعترافات، فإذا انطلقت آخر صيحات بوق البعث، عندما يقدر له أن يدوي، فسوف أمثل أمام الحاكم العادل وهذا الكتاب بين يدي، وسأقول في رباطة جأشي: هذا ما فعلت، وما فكرت، وما كنت".
نقلاً عن الترجمة العربية الصادرة عن بيت الياسمين بالقاهرة سنة 2019، هكذا افتتح الفيلسوف والمفكر، سويسري المولد (مدينة جينيف/جمهورية جينيف) فرنسي الأصول والتأثير والشهرة، جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau كتابه Les Confessions "الاعترافات"، الذي يشار إليه أيضاً من باب التمييز بـ"اعترافات جان جاك روسو"، والذي يُعدّ واحداً من أولى الأعمال التي تندرج تحت أدب السيرة الذاتية بصورة بارزة ومؤثرة على الصعيد العالمي.
كتاب فيلسوف جينيف الشهير رائد من حيث كونه اعترافات بدقائق حياة المؤلف من الوجهتين السلبية والإيجابية (الطيب والخبيث على السواء، بحسب ما يذكر روسو حرفياً مباشرة بعد الفقرة المقتطف عنها). وبرغم تأكيد الرجل على أنه يقول الحقيقة بدقة، وتحذيره لمن يمكن أن يشكّك في مصداقية ما كتبه لاحقاً (نُشر الكتاب بعد وفاته)، فإن كثيرين اعترضوا على الأقل على دقة التواريخ في بعض مواضع الكتاب على سبيل المثال. الأهم أن روسو برغم ذكره الرائد للجوانب "الطيبة والخبيثة" لحياته، فإن اعتداده بفرادته ظاهر منذ كلماته الأولى، وهو أمر لا يستدعي نقداً لاذعاً يقدح في قيمة/مصداقية الاعترافات بقدر كبير، فالأقلّ منه قدراً بكثير يفعل الشيء ذاته فيعلي من قدر نفسه حين يكتب سيرته الذاتية، ولا غرابة أيضاً في أن تكون الأحداث بصفة عامة مرويّة من وجهة نظر صاحب السيرة التي لا يمكن أن تكون محايدة مهما يدّع صاحبها الحياد ويبذل من أجل ذلك قصارى جهده. بل إن سيرة غيريّة يكتبها مؤلف بعيد الصلة بحياة شخصية مؤثرة لا يمكن أن تنجو من الانحياز إلى أو ضد الشخصية موضوع السيرة بدرجة أو أخرى في هذا الموقف أو ذاك.
بتأمّل ما قاله جان جاك روسو في بداية كتابه مما اقتطفناه ومما يلي ذلك على امتداد الاعترافات الضخمة، نقف على كثير من المواقف المشابهة لما نجد أنفسنا متنازَعين حياله بين الإصرار على موقف مبدئي خالص بحسب رؤيتنا الذاتية وبين مسايرة الآخر/المجتمع نزولاً على سطوة تقاليد/قوانين/شرائع ينافح دونها مَن حولنا – بحسب تفاسيرهم لتلك التقاليد/القوانين/الشرائع - بإصرار استناداً إلى بواعث أخلاقية سامية وفق وجهة نظر المجتمع ابتداءً وليس بصفة مطلقة بطبيعة الحال.
المرونة والمجاملة مطلوبتان، لكننا رأينا في العديد من المواضع السابقة في سياقنا هذا أن مرونتنا ومجاملتنا – مهما نتحرّ الحرص حيالهما - لا تخلوان من التداعيات والتجليات السلبية ("الخبيثة" بحسب تعبير روسو في بداية الاعترافات)، وذلك إلى درجة أنّ التواصل الاجتماعي مجملاً يصل إلى حدّ أن يوصف بـ"النفاق الاجتماعي"، من وجهة نظر ليست متشدّدة في كل الأحوال، على اختلاف المجتمعات حول العالم وعلى امتداد التاريخ الإنساني.
استجاباتنا المقاوِمة لسطوة تأثير المواقف المسبّقة من قضية ما على أي صعيد في المجتمع، سواء على المستويات الفردية أو الجماعية من أي قبيل، هي مسألة جديرة بتقدير عميق عندما تنطلق من بواعث مبدئية لأيٍّ منّا، والاستمرار في صلابة الاستجابات المقاوِمة من قبل أيٍّ من الأشخاص على مدى حياته أجدر بتقدير أعمق. ولكن في المقابل، لا تبدو المقاومة المستمرة التي يبديها أيٌّ من الأفراد لآراء وأفكار ومواقف المجتمع إفراطاً ومكابرة في بعض الأحيان فحسب وإنما نقصاً – وربما عجزاً - في كثير من الأحيان عندما يصبح الدافع لها مجرّد إرضاء الغرور النابع من التعصّب شبه المطلق للآراء الشخصية.
الأخطر أن يتعدّى الدافعُ غرورَ التعصّب لوجهة النظر الشخصية إلى حيث يغدو الضعفُ أمام التراجع عن الأفكار والمشاعر الذاتية المسبّقة - عندما يثبت خطؤها أو عدم دقتها - هو أبرز المحرّضات/العوائق لأي من الأشخاص فيما يتعلّق باستجاباته للمواقف المختلفة التي ينتظر منه المجتمع التفاعلَ معها بأيٍّ من الأشكال والدرجات.
"الضعف أمام التراجع عن الخطأ" تقابله بطبيعة الحال "شجاعة التراجع عن الخطأ" التي يُكتفى في بعض المواقف بوصفها بـ"شجاعة الاعتراف". المشكلة مع "شجاعة التراجع" أو "شجاعة الاعتراف" تكمن غالباً في إدراك أيٍّ من الأشخاص الخطأ نفسه ابتداءً، خطأ الفكرة/الموقف/النزعة، قبل أن تكمن في اتخاذ القرار بالتراجع. في كل الأحوال، تظل المشكلة قابلة لأن توصف بكونها نقصاً أو عجزاً تجاه إقلاق/إغضاب الذات بمخالفة انحيازها، وهو ما يكافئ/يماثل تقريباً النقص أو العجز الذي تجسّده في المقابل مواقف أولئك الذين يجدون سكينتهم في ممالأة/مسايرة المجتمع خوفاً من إغضابه.
بتجاوز المقصود بدقة من مصطلح الأنا كما أراده سيغموند فرويد، وبالاكتفاء بالمدلول الذي يُقصد عامةً بالأنا إشارة إلى تفخيم الذات، ألا يبدو النقص/العجز أمام التراجع عن الخطأ - إرضاءً للغرور المتأصل في أيّ من الأفراد تجاه آرائه/مواقفه الذاتية – كما لو كان نفاقاً للأنا، وذلك مقابل ما درجنا على الإشارة إليه بالنفاق الاجتماعي في الطرف المقابل من الاستجابات؟ ألا يبدو ما يسفر عنه "نفاق الأنا" من المواقف مخالفاً للحق بالقدر نفسه الذي يبدو به ما يسفر عنه النفاق الاجتماعي حتى إذا كان الأخير هو الأكثر شيوعاً وأمحق خطراً من ثم؟ ألا نجترح جميعاً في بعض المواقف نفاق الأنا بدرجة أو بأخرى؟ ألا يبدو نفاق الأنا كما لو كان محاولة ممن يتّصف به لإكساب العناد البالغ شرعيةً نفسية وأخلاقية؟ الأدهى، ألا يتداخل شكلا النفاق المتعارضان هذان – النفاق الاجتماعي ونفاق الأنا - بحيث يبدو إصرارنا في كثير من الأحيان على تبرير أحد أشكال النفاق الاجتماعي والاستمرار فيه كما لو كان عجزاً عن التراجع إزاء هذا السلوك فيغدو إصرارنا على النفاق الاجتماعي والحال كتلك كما لو كان نفاقاً للأنا متضمّناً في نقيضه من أشكال السلوك والاستجابات النفسية؟
أين الحق/الحقيقة إذن فيما يجب أن نتخذه من المواقف بالنظر إلى ما سبق من الأسئلة/المفارقات؟ ألا تبدو الحقيقة حيرى/ضائعة بين كل طرفي نقيض في الحياة؟