عمرو منير دهب يكتب: متى نبدأ تعلُّم الكذب؟.. الفصل الثالث والعشرون من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"
"يتعلّم الصغار منذ سن مبكرة جداً – نحو الخمس سنوات – أن في استطاعتهم امتلاك معلومات لا يعرفها شخص آخر وأن في استطاعتهم، نتيجة لذلك، التلاعب بعقل الشخص الآخر ومعرفته بالحقائق؛ بعبارة أخرى، إنهم يتعلّمون الكذب. ولكن، على الرغم من اكتشافهم هذه القدرة في سن مبكرة، إلا أن الصغار كاذبون مبتدئون ويسهل جداً كشفهم من قبل البالغين. بيد أن ممارستنا للكذب المركِّز على الذات والكذب المركِّز على الآخر سنة بعد سنة، ولأسباب متنوعة، تجعلنا بارعين في فن خداع الآخرين في نهاية المطاف. والآن، ومع التسليم بأن البشر يكذبون بصورة اعتيادية – غالباً بنوايا حسنة – وبأنهم متمرّسون في هذا المجال، فما مدى براعتنا في كشف الكذب الذي يقال لنا؟".
بصرف النظر عن تفاصيل الإجابة على السؤال الأخير، تلك التفاصيل التي تشكّل المحور الذي يدور حوله كتاب ديفيد كريغ David Craig، الصادر في ترجمته العربية بعنوان "كشف الكذب" عن الدار العربية للعلوم ببيروت عام 2012 ترجمةً للأصل باللغة الإنجليزية بعنوان Lie Catcher، كنت أتمنّى لو أن الإجابة على السؤال عنوان المقال بتلك السهولة والمباشرة النسبية، ولكن المسألة – بالتعمّق في جوانبها الفلسفية - أعقد بكثير على الأرجح ممّا يمكن أن يشغل بال خبير عمليّات سريّة كديفيد كريغ معنيّ أساساً بالنتائج العملية للكذب وكشفه أكثر من الارتداد إلى التأصيل النفسي وولوج متاهات التحليل الفلسفي للخصلة المثيرة للجدل بغرض التنظير مجرّداً.
يتعلّم الأطفال الكذب إذن عند نحو الخامسة من عمرهم بحسب ديفيد كريغ الذي يستند على الأرجح إلى دراسات من مختصّين، فالوصف الوظيفي للعمليات السرية Covert Operations لا يمكِّن أيّاً من المشتغلين بها من التعامل المباشر مع أطفال يتيحون الوقوف على تجارب عملية تكشف السن التي يبدأ عندها الإنسان تعلّم تلك "المهارة" المثيرة للجدل. ولو أن السيد كريغ اطّلع على أبحاث أخرى لربما اقترحت عليه تلك الأبحاث أنّ سِنّ تعلّم الكذب هي الثالثة أو الثانية أو حتى أدنى من ذلك. الإنسان على الأرجح يُولد وفي فمه ملعقة من الكذب بالفطرة، بحيث يبدأ كل واحد في تعلّم وممارسة الكذب وفق ما يحيط به من ظروف وبحسب مهاراته الفردية في تطويع مواهبه الفطرية للتعامل مع تلك الظروف.
وعندما يرغب الإنسان في الارتداد إلى أصل الأشياء بما يتجاوز طفولته الباكرة، فإنه عادةً ينبش عوالم الحيوانات لعله يجد ضالته. سيكون مفيداً وطريفاً إذن الاطّلاع في سياقنا هذا على بعض ما ورد بصفة عامة عن أخلاق الحيوانات في كتاب "العدالة في عالم الحيوان: الحياة الأخلاقية للحيوانات" الصادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث ضمن مشروع "كلمة" سنة 2010، ترجمةً للأصل باللغة الإنجليزية بعنوان Wild Justice: The Moral Lives of Animals للمؤلفَين مارك بيكوف Marc Bekoff وجيسيكا بيرس Jessica Pierce.
تحت عنوان "ما الحيوانات ذات السلوك الأخلاقي؟ - الكتابة على سطر متعرج" يرِد في الكتاب: "يرغب كثير من الناس في معرفة الحيوانات ذات السلوك الأخلاقي. فهل يمكننا أن نرسم خطّاً فاصلاً بين الأنواع التي تطوّرت لديها المنظومة الأخلاقية وتلك التي لم تتطوّر لديها؟ بالنظر إلى البيانات المتراكمة بسرعة حول السلوك الاجتماعي للعديد من الأجناس المختلفة (من الحيوانات)؛ فإن رسم هذا الخط الفاصل يُعدُّ ضرباً من العبث، وأفضل ما يمكننا اقتراحه هو أنك إذا ما قرّرت أن ترسم هذا الخط، فاستخدم قلم رصاص. فهذا الخط سيميل إلى "الأسفل" لا محالة بحيث يستوعب أنواعاً لم نكن لنحلم أن ننسب إليها مثل هذه السلوكيات المعقدة، مثل الجرذان والفئران".
يستطرد المؤلفان: "وبالنظر إلى الوضع الحالي لأبحاث الحيوان، فإن هناك دليلاً دامغاً على وجود سلوك أخلاقي لدى الرئيسيات (وخاصة القردة العليا، لكن هذه السلوكيات تنسحب أيضاً على الأقل على بعض أنواع القردة الأخرى)، واللواحم الاجتماعية (وأكثرها نصيباً من الدراسات هي الذئاب وذئاب البراري والضباع)، والحيتانيات (الدلافين والحيتان)، والأفيال وبعض القوارض (الفئران والجرذان على الأقل). لا تشمل هذه القائمة جميع الحيوانات ذات السلوك لأخلاقي، ولكنها تمثّل الحيوانات التي حظي سلوكها الاجتماعي بالدراسة الكافية لإتاحة بيانات وافية تساعد على التوصّل إلى استنتاجات في هذا الشأن. هناك كثير من الأنواع الأخرى من الحيوانات، مثل العديد (من) ذوات الحوافر والقطط، التي نعاني نحن من قصور في البيانات الخاصة بها. ومع ذلك، لم يكن من المستغرب أن نكتشف أنها تمتلك أيضاً سلوكيات أخلاقية".
ولأن السلوك الأخلاقي موجود في الحيوانات كما يقول الكتاب، وكما يمكن لأيٍّ منّا أن يلاحظ بدرجة أو أخرى مع تجاربه مع أيٍّ من الحيوانات الأليفة إلى جواره، فإنّ تجاوز قواعد أيٍّ من بنود السلوك الأخلاقي المتواضع عليه بين أي قطيع من الحيوانات من قِبل أيٍّ من أعضاء القطيع يقتضي العقاب أو على الأقل الاستنكار والرفض من المجموعة.
مع الكذب تحديداً لا تتعلّق المسألة في عالم الحيوانات بـ"قول" الحقيقة بل بـ"فعلها"، ما يجعل ما ذكرناه في "طريق الحكمة السريع" حول تعريف الكذب منطبقاً حرفيّاً في هذا المقام: "الصدق: قدرتك على فعل الحقيقة".
الارتداد إلى عالم الحيوانات لا يزيد المسألة المتعلقة بأصول وبدايات تعلّم الكذب وضوحاً قدرَ ما يزيد من الاكتشافات التي تفاقم عبء الوصول إلى حقيقة قاطعة، لكن ذلك – بصورة موازية - يفتح آفاقاً جديدة نحو رؤى أكثر ثراءً وأبعث على الإلهام حول موضوع الأخلاق بصفة عامة.
يقول مارك بيكوف Marc Bekoff وجيسيكا بيرس Jessica Pierce: "تكاد تكون المنظومة الأخلاقية محصورة بالثدييات، التي تمثّل محور اهتمامنا في هذا الكتاب. وفي هذه المرحلة، يُعدّ وصم الأنواع الأخرى بالافتقار إلى السلوكيات الأخلاقية استباقاً للأحداث. فنحن لا نملك البيانات الكافية للتوصّل إلى استنتاجات ثابتة بشأن التوزيع التصنيفي للمهارات الإدراكية والإمكانات الشعورية، لدى مختلف الأنواع، اللازمة لتمكينها من التعاطف مع الآخرين أو التصرف بإنصاف. ويجب هنا أن تظلّ كل الافتراضات مؤقتة في هذه المرحلة. فمن المحتمل، على سبيل المثال، أن تتمتّع بعض الطيور مثل فصيلة الغربان شديدة الذكاء بنوع من الأخلاق".
وفي موقع لاحق من الكتاب يقول المؤلفان: "أمّا الثقة، والتي تظفر بقدر كبير من الأهمية للتبادلات التعاونية والمعاملة بالمثل، فإنها عنصر أساسي أيضاً للإنصاف، وخاصة في سياق اللعب الاجتماعي. وتتضمن مجموعة العدالة ومجموعة التعاون سلوكيات ترتبط بمعاقبة المخادعين، والانفصاليين، والكاذبين، بما في ذلك المشاعر السلبية التي تتولّد عندما تحبط التوقعات. واستنتاجنا المبني على المعلومات فحواه أن العدالة والحس بالإنصاف قد تطوّرا انبثاقاً من المخزون الأكثر بدائية والسلوك الإيثاري".
على صعيدنا هذا، من شأن الغوص والتحليق في عوالم الحيوانات الإفصاح عن أن مسألة الأخلاق – أو للدقة الحاجة إلى الأخلاق - تبدو فطرية؛ لكن – للمفارقة – تبدو خصال نراها مذمومة كالكذب أكثر تجذّراً في فطرتنا بما يجعل النظم الأخلاقية تبدو – والحال كتلك - أقرب إلى كونها مصطنعة/متواضعاً عليها لكبح جماح ما هو على شاكلة الكذب من خصالنا الفطرية الأكثر تجذّراً وانفلاتاً، وذلك بصرف النظر عن أوان اكتشافنا لتلك الكنوز الفطرية مراوِغة الدلالة والشروع في استخدامها.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])