"كنت بقول للطيارين اللي عندي.. أنا مش عايز حد يموت، لو مت مين اللي هيدافع عن مصر! استنى لغاية الآخر، واتمنى الشهادة في الآخر، متجيش في الأول وتقول أنا مشروع شهيد.. لا احنا عايزينك، اللي بيموت بيكسر طيارة بـ 50 مليون جنيه وبيجيب لأهلة المصايب، فاحنا عايزينك ملكش حل".
بهذه الكلمات وصف اللواء طيار أحمد كمال المنصوري، قائد تشكيل مقاتلات في حرب أكتوبر 1973، والذي تم تلقيبه "بالطيار المجنون"، خلال لقائه ببرنامج "الستات مايعرفوش يكدبوا" حالة الاستبسال التي عاصرها مع أبناء جيله من المقاتلين الذين نجحوا في تحرير مصر من العدوان الاسرائيلي الغاشم عليها.
بطولة "المنصوري" لا تكمن في كونه أحد المشاركين في الحرب، وإنما في استماته على الدفاع عن أرضه وعرضه حتى وإن كان الثمن حياته.. لم يكن هدفه الاستشهاد بقدر رغبته المُلحة في القضاء على العدو.. طائرته كانت أغلى ما يملك بعد إيمانه بالله، لذا قرر عدم التخلي عنها حتى في أحلك اللحظات.
"أطول معركة جوية"
من بين الأوقات الحرجة التي مرت عليه كانت في فبراير1973، إذ اضطر خلالها أن يخوض معركة جوية عُرفت بعد ذلك بأنها الأطول من بين المعارك الأخرى، فبدلا من أن تستمر من دقيقتين إلى ثلاث دقائق، استمرت على مدار 13 دقيقة.
روى "المنصوري" في لقائه مع الإعلامية لميس الحديدي خلال برنامج "هنا العاصمة" تفاصيل المعركة، التي اشتبك فيها هو وزميله الذي كان يقود طائرة أخرى "ميج 21" وهي نفس نوع طائرته، مع 6 طائرات استطلاع لجيش العدو من نوع "فانتوم الأمريكية"، كانت قد اقتحمت الأراضي المصرية من ناحية "فايد" والتقطوا العديد من الصور للجيشين الثاني والثالث، ومروا من فوق خليج السويس في اتجاه العين السخنة، واستمروا في التحليق لمدة في الأجواء المصرية.. وصف "المنصوري" ذلك الاقتحام بأنه "هتك عرض بالقوة" وكان لا بد من التصدي له.
إمكانيات الطرفين لم تكن متكافئة، فبحسب ما روى "المنصوري" فإن طائرته هو وزميله كانت من نوع "ميج 21" وهي تكنولوجيا عتيقة من الحرب الثانية، إذ تزود كل طائرة فيها بصاروخين و200 طلقة وتحمل على متنها قائد واحد، فيما كان جيش العدو مزود بطائرات الفانتوم الأمريكية الحديثة والتي تساوي في قدرتها طائرتين أو ثلاث طائرات من "الميج 21" والتي تحمل بداخلها قائدين أحدهما لقيادة الطائرة والآخر لتوجيه الأسلحة، لذا فإن قرار الدخول في المعركة لم يكن مناسبا، لكن الاشتباك حدث على أي حال.
"تفاصيل تسجيل صوتي نادر من طائرة المنصوري"
وجاء تفاصيل الحديث الذي دار بين غرفة العمليات "والمنصوري" وفقا للتسجيل النادر من طائرة الأخير كالآتي:
- تشكيل المنصوري إقلاع.. تشكيل المنصوري طائرتين ولا أربع طائرات؟
- طائرتين.. الموقف في اتنين تشكيل من طائرتين، وفي تشكيل تشكيل من أربع طائرات، وتشكيل من طائرتين غرب الزعفرانه 40 كيلو
- اوكي وجهنا عليهم على طول
- ارتفاعات المُعادي 4 كيلو و3 كيلو ونصف.. المُعادي دلوقت واخد اتجاه الشرق 80 ومسافته من غرب الخليج 20 كيلو
- اوكي دخلنا عليه على طول
- أوكي مش هنلحق.. هنفتح أقصى قدرة للمحرك
- الهدف المعادي دلوقتي دخل جوا الخليج وبيعمل دوران لليمين شرق الزعفرانة 10 كيلو بالنسبة لنا هتبقى الساعة 11.. المسافة 150 كيلو
- رقم 2 تشكيل لليمين.. رقم 2 أقصى قدرة للمحرك.. رقم 2 أقصى قدرة للمحرك.. رقم 2 تأكد من الصواريخ.. جهز مفاتيح إطلاق الصواريخ
- تشكيل المنصوري من غرفة العمليات.. غرفة العمليات من المنصوري.. في طائرتين بيعدوا الخليج جايين علينا.. أنا ههجم عليهم على طول
- منصوري خلي بالك أنت داخل دلوقتي على الخليج.. متعديش الخليج.. أنت غرب الخليج دلوقتي.. مسافتك من الخليج حوالي 20 كيلو.. وفي تشكيل معادي شرق الخليج وفوق الخليج بالظبط ارتفاعه حوالي 5 كيلو.. ده أربع طائرات
منصوري إحنا مش شايفين التشكيل ده خالص، ميزه أنت وخلي عندك ارتفاع
- دلوقتي في تشكيل وراك الساعة 5 مسافته 20 كيلو ده أربع طائرات.. متخشش على الطائرات المعادية خليك في أرضنا متخشش أرضهم خالص بس متجيش وراك أبدا ادخل في وشهم وعدي منهم وتعالى.. بيلف وراك المعادي.. اقطع عليها.. خليهم على شمالك على طول.. المعادي على شمالك.. بيقطع عليك دلوقتي.. بيقطع عليك خلي بالك داخل عليك.. المعادي بيوطي هيخش وراك دلوقتي خلي بالك.. أخرج من الخليج.. دوران لليمين وأهدى اهدى
- المنصوري خلي بالك من الطيارات المعادية.. أوك منصوري أنت مشتبك لسه؟.. كل الطيارات ترجع مطار بير عريضة
- أنا معايا 100 لتر يا جدعان.. أي طيارة تبلغ إن المنصوري نازل على الطريق اللي في الوادي بتاع بير عريضة ومعايا 100 لتر
"كواليس ما قبل المعركة"
روى "المنصوري" الكواليس التي دارت بينه وبين زميله الشهيد طيار حسن لطفي، قبل إقلاعهم لحظة الاشتباك مع العدو، قائلا: "أول ما بنطلع بشاور لزميلي إن روحة بلا رجعة.. معناها إن مش هنرجع دي مش هتروح ببلاش، لكن هتجيب معاك عين أو قلب أو واحد واتنين منهم.. لكن متروحش أونطة"، مضيفا: "قالي موافق وجاهز لهذه التضحية".
فيما استعاد ذكريات المعركة ذاتها، وقال: "أنا عديت الخليج، والـ 6 طيارات فيهم 12 طيار بـ 24 عين وكل طيارة فيها طيار شغلته يقتل والتاني يطيرها، ومعاهم صاروخ اسمه (اضرب وانسى) وأنا معايا صاروخين اسمه (اروح لمين).. ف أنت بصحتك وعافيتك لوهتوصل في النهاية إنك تخبط فيهم".
تابع: "عملوا دايرة وأنت ملكش حل إلا تحسم المعركة في أول 30 ثانية والتشكيل بيبقى واضح، دخلت على القائد ضربته صاروخ، بقى 5 طائرات.. المعركة الجوية بتاخد من دقيقتين لـ 3 لأن الطيارة بتستهلك 200 لتر في الدقيقة، ودي عدت 15 دقيقة.. اليهود كانوا عارفين وبيضيعوا وقت عشان تنط وتسيب الطيارة.. أنا مش ممكن أسيب طيارتي واللي فاضل كان 500 لتر، قولت لزميلي اللي يقرب منك اخبط فيه، وبعدها نزلت بالطيارة على مدق عند العين السخنة بعد معركة الـ 13 دقيقة".
أضاف: "اتكلت على الله وقولت إيدك معانا إحنا بنقاتل في سبيلك.. كنت طيار باخد 50 جنيه وعندي عيلين وبحارب ومش عايز أي حاجة، دي كانت روحنا".
"مناورة الموت الأخيرة"
لم تكن تلك المعركة الشهيرة الوحيدة للمنصوري، إذ خاض معركة أخرى سميت بـ "مناورة الموت الأخيرة" التي أقيمت بعد يومين من إيقاف إطلاق النار، وتحدث عنها المنصوري خلال لقائه في برنامج "الستات مايعرفوش يكدبوا" قائلا: "إيقاف النار كان يوم 22 أكتوبر1973، لكن اليهود في كل حتى بتخون وبتنقد العهد.. المعركة قامت يوم 24 أكتوبر.. كنت أنا آخر طيار نزل الحرب".
وسرد "المنصوري" تفاصيل المعركة التي تسببت في أن يُطلق عليه جيش الدفاع الإسرائيلي لقب "الطيار المصري المجنون"، حيث قال: "كانت الطيارة جاية ورايا عشان تضربني، لكن كل اللي عملته إني مارست مناورة الموت الأخيرة.. أنا كده كده ميت، بس مش هموت إلا بعده.. قولت يارب مش عايز أموت على إيد الغبي ده".
تابع: "في المناورة دي بتنزل بمقدمة الطيارة في اتجاه الأرض، وبيلزم لها تكون على ارتفاع 6000 قدم لو طلع ناصح ومنزلش تلف وترجع من وراه، وبعد ما رميت الطيارة اكتشفت إني على ارتفاع 3000 قدم.. بس ربنا معانا باستمرار، طلعت الطيارة وببص لاقيت الطيارة اللي كانت ورايا بقت قدامي.. غبي في الفضاء، وطلعت صاروخ وقولت له ابتسم أنت تموت الآن.. أصابته وانفجرت الطيارة".
أشار إلى أن الجيش المصري والعدو ظنوا أنه مات بالفعل أثناء نزوله بمقدمة الطائرة في اتجاه الأرض، فتلك المناورة التي لم يدرسونها إلا نظريا فقط لخطورتها، نجحت بإعجوبة، إلا أن الغبار الذي أثير أثناء نزوله لم تمكنهم من تمييز ما إذ كان قد نجى أم لا، وفوجئ الجميع بأن الطائرة الخاصة به تحلق في الأجواء بعد انتصارها.
"بعد الحرب.. مواجهة بين المنصوري ومحارب إسرائيلي"
بعد سنوات من انتهاء الحرب، كشف "المنصوري" أنه قابل في باريس أحد هؤلاء الإسرائيليين ممن كانوا في هذه المعركة، كانت ذراعه مبتورة في الحرب، وحينما سأل "المنصوري" عن السبب، فرد عليه قائلا إن إسماعيل إمام هو السبب، معلقا: "إسماعيل إمام طيار دفعتي، ضرب 8 طيارات لإسرائيل .. كواهم، لما كانوا بيسمعوا أنه طار تبقى مصيبة، لكنه استشهد في نهاية الحرب".
أضاف أن ذلك اليهودي سأله عن السبب الذي دفعه في الاستمرار بالقتال رغم نفاذ الذخيرة، ليرد المنصوري قائلا: "إنك تيجي تخبط فيا مقداميش أي خيار إلا أني أقتلك لأنك جاي تاخد أرضي وعرضي وبنتي وأمي فأنا مش هسيبك تعمل كده، لكن أنت قدامك خيارات تانية ابعد عن أرضي لأن سمائي محرقة ومياهي مغرقة وهذه أرضي أنا، وأبي قال لنا مزقوا أعدائنا فكان لازم أكلك بسناني، فبصلي كده ومشي".