تنمو المواهب وتترعرع خارج أسوار المدارس والجامعات أفضل مما تفعل داخلها، بل ربما كانت للمؤسسات الرسمية والأكاديمية آثار سلبية بصورة واضحة ومباشرة على المواهب على اختلافها، فالموهبة تنشد التحرّر لتنطلق في إبداعها، ومهمة المؤسسات الأكاديمية وضع القواعد والنظم – القيود بالتعبير الصريح – التي يجب أن تسير المواهب على هداها؛ بل ربما كانت وظيفة المدارس والمعاهد والجامعات الأساسية إتاحة القواعد والنظم التي تضمن "تفريخ" جحافل من أصحاب المؤهلات الأكاديمية المختلفة بحسب حاجة أسواق العمل بصرف النظر عن مدى عمق الموهبة المطلوبة في كل تخصص من قبل الملتحقين به، ذلك أن أسواق العمل في المجتمعات الكبرى المعقدة ليس في وسعها أن تبقى تحت رحمة أصحاب المواهب يمنّون عليها بفضول أوقاتهم وهِبات أمزجتهم الرائقة لإمدادها بما تحتاجه من الاختراعات وتطويرها والاستجابة لطلبات المستهلكين الشرهة التي لا تعرف الرحمة.
ولكن في المقابل ثمة وجهة نظر أخرى جديرة بالتأمّل، فأصحاب العمل والمسؤولون النافذون على اختلاف منطلقاتهم يرون أن الحياة لا تُدار إلّا بنظام صارم، وعليه فإن تقييد المواهب بأطر تعمل من خلالها بمثابة الضرورة التي لا مناص منها في نظر أولئك النافذين حتى تكون لتلك المواهب تجلّيات مفيدة على أرض الواقع عوضاً عن الركون إلى لذة التحليق في فضاءات بلا مسؤوليات أو محاسبة ثم الهبوط إلى الأرض من حين إلى آخر باكتشاف عبقري أو إبداع نظري مذهل كلّما سمح مزاج صاحب الموهبة.
مهما يكن الخلاف حول الطريقة المثلى للإبداع، أو بالأحرى الطريقة المثلى للاستفادة من الإبداع، فإن الواقع يشهد أنه لم يأت قط زمان سُمح للمواهب فيه بالإبداع/العمل بحرية مطلقة أو حتى شبه مطلقة؛ فقد ظلت هناك باستمرار سلطة من قبيل ما تُخضع المواهب للعمل تحت إمرتها، أو – ربما بالمزيد من الجرأة – سلطة تتسابق المواهب إلى (وربما تتلذّذ بـ) العمل والإفادة من نفوذها لتحقيق رؤاها التي تظل حبيسة الخيال لولا إمكانيات تلك السلطة النافذة.
في كتابه La médiocratie، الترجمة العربية بعنوان "نظام التفاهة" للدكتورة مشاعل الهاجري عن دار سؤال للنشر ببيروت سنة 2020، يقول آلان دونو Alain Deneault : "تتمثل الحالة الأكاديمية academic habitus، بطبيعتها، بالسماح بجعل ذاتك قيد السيطرة. فعادةً ما يكون الأكاديميون مشوّشين بالكامل؛ وحده المال ما يبدو أنه يضفي على ممارساتهم بعضاً من الاتّساق. لقد استسلموا، وهذا أمرٌ يشكّل منظورهم نحو الكيفية التي ينبغي لهم فيها استخدام اللغة في البحث. فالكتابة الأكاديمية تقوم على قاعدة ضمنية تتحوّل إلى علنية في حال خرقها: وحده الأسلوب المحايد، الهادئ، والمُعيّر measured هو ما يجعل من نثر المرء جديراً بالعلم. كلما كان ذلك ممكناً، ينبغي أن تكون الكتابة مملّة. أسلوبياً، ينبغي على الكتابة التي تدّعي ارتباطاً بالمعرفة أن تدور دائماً حول المنطقة الوسطى: كل ما عدا ذلك سوف يتسبّب في حالة من عدم الارتياح. فالأستاذ المميّز سوف يشعر بالقلق من أي مقترح علمي إنْ لم يُقدَّم وفقاً لمتطلّبات الفكر الموضوعي. وإذا تبدّت له صلاحية فكرة ما من دون أن يجدها مصوغة بطريقة ملائمة للبيئة الأكاديمية، فإنه يمكن أن يكرّرها بالنهاية من دون ذكر مصدر حصوله عليها؛ فالأسلوب هو كل شيء. يتعلق الأسلوب، قبل كل شيء، باختيار الكلمات. من المفضّل اختيار كلمات تبدو علمية، وإن لم يكن ذلك إلّا للإيحاء بأن أفكارك ليست ذات علاقة بالمكان ولا بالزمان. بدلاً من "النقود" money، على سبيل المثال، ناقش "العملة" currency... لا تناقش "الطبقة" class، وإنما حلّل "الفئات الاجتماعية" social categories".
يتحدث دونو في هذا المقتطف عن سطوة السلطة الأكاديمية على الموهبة؛ لكن سلطة المال وسلطة السياسية، أو تزاوجهما بصورة أكثر دقة، لا ريب هي الأعظم سطوة على المواهب، تماماً كما هي الأشد سطوة على سائر من وما في الحياة. في هذا السياق، يواصل دونو: "بعد ذلك، من المهم ألّا تُستخدم لغة خشنة للسخرية من لاعبين سياسيّين بارزين، لا سيما إذا كانوا من ذوي النفوذ. إن الشركات متعددة الجنسيات تخطر على البال هنا".
بتركيز أدق على الفن، باعتباره النموذج الأمثل لما يتوارد إلى الخاطر عند الحديث عن الموهبة، تتّضح صعوبة – أو ربما استحالة – تحرّر الموهبة من ربقة سلطة المال، على الأقل وفق ما يحدث في هذا العصر الذي يفاقم من تجليات سطوة المال التي لم تنقطع على كل حال عن التأثير في حياة الناس في أيٍّ من الأزمان: "والآن، يمكننا أن نفهم بطريقة أفضل لماذا يُفترض على الفنانين العمل وفقاً لأهداف السوق أكثر من الأهداف المرتبطة بعمليّاتهم الإبداعية الخاصة. أنْ تكون فناناً/مديراً أو مديراً/فناناً، هذا هو السؤال. ولكن "المحسنون" الأثرياء wealthy philanthropists حائرين بسبب هذه المعضلات العبثية: فعندما يتعلق الأمر بالمال، فهناك معرفة واحدة فقط، وهي المعرفة التي يحتفظ بها من يعرفون كيف يراكمونه؛ نحن نحب الفن، وفوق ذلك نحن نهتم بالفنانين أيضاً؛ ولكن لا يمكن أن تتوقع منّا فعلاً أن نأخذ في الاعتبار آراءهم في الاقتصاد. وهكذا، تصبح المسألة مناطة بالفنانين الذين يكون عليهم أن يتعلموا التأقلم. وفي دفعهم لقيم الأعمال الفنية (فيما هم يستمتعون على حساب الفنانين)، فإن المموّلين يرون أنفسهم وكأنهم هم الخالقون الحقيقيون، باعتبار أنهم هم من جعل هذا الفن ممكناً: فهم لا يموّلونه فقط، بل هم يستنفدون أنفسهم من أجله أيضاً من خلال العمل كأعضاء مجالس إدارة لإدارة جميع هياكله... بثقة تامة في رأسمالهم الثقافي، يملك الرعاة sponsors الآن مدارسهم الخاصة التي يمكن لفنانيهم المختارين التدرّب فيها".
تبدو إذن السطوة الطاغية والمحكمة للسلطتين المالية والسياسية، تحديداً، على المواهب كما لو كانت قدراً لا مناص منه؛ وذلك بحيث تبدو في المقابل فرص أصحاب المواهب في التأثير على أصحاب تينك السلطتين غير متاحة إلّا من خلال أعمال ملهمة تنفذ إلى المتنفذين فيهما منذ نعومة أظافر أولئك المتنفذين فتشكّل عقولهم ووجدانهم قبل أن يصبح بإمكانهم لاحقاً فرض سيطرتهم شبه الكاملة على المواهب وأصحابها وسائر من في الحياة وما فيها.