الطاقة ضمن أيّ نظام معزول ثابتة، لا تفنى ولا تُستحدث من العدم. هذا قانون شهير في العلوم (الفيزياء بصورة أكثر خصوصية) يفيد بأن الطاقة تتحول من شكل إلى آخر ولكنها في النهاية ثابتة ضمن النظام المعزول الذي يحتويها. ما الذي لا يجعل هذه "الحقيقة" تمتدّ خارج نطاق دراسات علوم الفيزياء إلى سائر ما في الكون بما يشمل بواعثنا المعنوية؟ أليس الكون في النهاية – أو على الأقل بقدر ما نحيط به ويؤثِّر فينا – نظاماً معزولاً؟ أليست دوافعنا المعنوية أشكالاً للطاقة نهاية المطاف؟
إذا كان إثبات قانون حفظ الطاقة متاحاً عبر معادلات رياضية/فيزيائية وتجارب معملية، فإن سَحْب القانون ذاته لينطبق على سائر ما في الحياة – لا سيما طاقاتنا المعنوية - يبدو تنظيراً مجرّداً تقتضي مهمةُ إثباته الشاقة تجربةَ حياة عريضة مقرونة بتأمّل عميق ومحايد بعيداً عن الخضوع إلى جاذبية التبشير البرّاق بإمكانية الارتقاء في حياتنا الدنيا إلى مصاف ملائكيّة في السلوك وحشر نوازعنا الشيطانية في زوايا الوجود المهملة.
نرشح لك: وهْم الشجاعة .. الفصل التاسع والعشرون من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"
ما نبذله في نطاق تنوير ذواتنا وتطويرها ليس بدعة حديثة بحال، وإن يكن قد اتّخذ مؤخّراً أشكالاً مباشرة وبرّاقة وشديدة الإغراء بإمكانية تحقّق وعود تطوير الذات من خلال قراءة كتاب أو الالتزام بإرشادات دورة تدريبية على هذا الصعيد. وبرغم أن تطوير الذات – بالتخلّص من جوانب شخصياتنا السلبية – مسألة لا تزال بمثابة التحدّي بالغ الصعوبة، فإن ارتقاء أيٍّ من الناس في هذا المقام ممكن بدرجة أو أخرى، حتى إذا لم يكن بالضرورة ارتقاءً في صورة خطية، أو متعرجة، صاعدة باطّراد متواصل. ذلك الارتقاء قابل للتحقق إذن، وقد تحقق بالفعل مراراً، إن لم يكن معنا بصورة شخصية فمع أيٍّ من المقرّبين أو حتى مع مَن لا تربطنا بهم صلة مباشرة ولكن تسنّت لنا مراقبة سلوكهم لأيٍ من الأسباب خلال فترة زمنية ممتدة.
في المقابل، وبإلقاء نظرة عامة، ولكن فاحصة ومتمهّلة بالضرورة، هل بالإمكان القول بأن المحاولات الناجحة على الصعد الفردية – وحتى الجماعية على قدر ما يمكن الوقوع على أيٍّ من نماذجها بوضوح في أيّ مقام – قد أفضت إلى حيث بات سلوك الناس أكثر إيجابية فيما يتعلّق بطاقاتهم الانفعالية والمعنوية على وجه العموم؟
الإجابة على السؤال أعلاه ستكون في الغالب "نعم" في ضوء المؤثّرات المرتبطة بدوافعنا تجاه قيمنا وأعرافنا على أيّ صعيد، ولا ريب أن تلك المؤثّرات تُحكم قبضتها علينا مهما نتخيّل أنّنا متحرّرون من تلك القبضة بدرجة أو بأخرى. ولكن من شأن النظرة الأكثر تمهّلاً وموضوعية/حيادية/استقلالاً – على صعوبة تحقّقها – أن تفصح عن أن سلوك بني آدم يظلّ منطلقاً في مجموعه من ذات البواعث التي لا تتحرّر مما هو سلبي من الطاقات بقدر ما تتحايل عليه عندما لا يكون ثمّة مفرّ من مواجهة امتحان الطاقة الإيجابية رجوعاً إلى قيمنا وأعرافنا على أيّ صعيد.
في أحسن الأحوال، وبالرجوع إلى استلهام قانون حفظ الطاقة في الفيزياء، ألا تبدو الطاقة السلبية التي أفلح أيٌّ من الناس في التخلّص منها – بأي قدر - كما لو كانت قد تحرّرت من ذلك الشخص لتتلبّس غيره، وهكذا دواليك بالنظر إلى كل محاولة ناجحة لأيٍّ من الناس للتخلص من طاقته السلبية، والعكس أيضاً فيما يتعلّق بالطاقة الإيجابية المنفلتة من أيٍّ من الناس لأيٍّ من الأسباب، بحيث يظل مجموع الطاقة ثابتاً على نطاق المقارنة مهما يكن محيط ذلك النطاق (سواء بالنسبة لمجموع الطاقة السلبية أو مجموع الطاقة الإيجابية كلّ على حدة، أو مجموع الاثنتين معاً)؟ بل، ألا تبدو الفكرة نفسها قابلة للتحقّق بالنسبة لكلٍّ منّا بصفة مستقلّة، بحيث أنّ ما يتحرّر من الطاقة السلبية في جانبٍ ما مِن جوانب شخصية/حياة أيٍّ منّا ينسرب إلى جانب آخر داخل الشخصية نفسها وليس بالضرورة إلى شخصية أخرى (والعكس أيضاً فيما يتعلق بالطاقة الإيجابية) فيكون مجموع الطاقة ثابتاً باستمرار داخل الشخص نفسه ولا يكون الفرق – لدى عملية التقييم التي يقوم بها أيٌّ من الأطراف لأيٍّ من الناس - سوى فيما يلفت الأنظار من جوانب/مظاهر الطاقة التي تهمّ مَن يقوم بعملية التقييم؟
العديد من الأسباب يحول دون إدراكنا تلك "الحقيقة" المحتملة، فنحن انفعاليّون نتطلّع إلى ما نتوقّعه بناءً على أحلامنا وآمالنا أكثر مما نقرأ ما يقع مجرّداً، بقدر ما يمكننا التجرّد في الحكم. إلى ذلك، نحن انتقائيّون في قراءاتنا وأحكامنا، ليس فقط بتأثير ميولنا وأهوائنا وإنما أيضاً بسبب نظرتنا القاصرة – على المستويين المادي والمعنوي – التي ليس في وسعها أن تحيط بأيٍّ من الصور كاملةً على أي صعيد.
في كتابهما "دروس من التاريخ"، الأصل الإنجليزي بعنوان The Lessons of History، يعرض ويل وإريل ديورنت Will and Ariel Durant أحد أوجه قصورنا – المتعمّد على الأرجح – فيما يتعلّق بإدراك الحقيقة، وفيما يخصّ قراءة واستلهام التاريخ الذي يؤثر في أحاكمنا بصفة أكثر تحديداً وخصوصية: "يجب علينا أن نتذكّر أن التاريخ الذي نكتبه (peccavimus) مختلف إلى حد كبير عن التاريخ الذي نعيشه؛ المؤرّخون يكتبون الأحداث الاستثنائية لأنها مثيرة، لأنها استثنائية! لو أنّ كلَّ الأفراد الذين لم يكن لهم من يدوِّن عنهم تفاصيل حياتهم أخذوا حقَّهم في مساحة مناسبة لأعدادهم من كتب المؤرخين لأصبح لدينا نسخة أقلّ إثارة، لكن أكثر عدلاً للتاريخ وللإنسان. خلف ذلك الوجه الأحمر للحروب والسياسة، والتعاسة والفقر، والزنا والطلاق، والقتل والانتحار... هناك ملايين من الأسر المنظمة والزيجات المخلصة والرجال والنساء الودودون والمحبُّون، السعداء والمهمومون بالأطفال، حتى في التاريخ المسجّل يجب أن نذكِّر أنفسنا أنّنا نجد الكثير من أفعال الخير والنبل – أيضاً – التي يمكنها أن تجعلنا نسامح الخطايا، لكن لا ننساها. لقد تساوت حسنات الأعمال الخيرية مع وحشية الحروب والسجون وعادَلَتْها تقريباً".
يرِد الكلام أعلاه في الفصل السادس من الكتاب بعنوان "الأخلاق والتاريخ"، وهو سياق ليس مطابقاً تماماً لسياقنا هذا، لكن اقتطافنا يجيء على سبيل الإشارة إلى ما يمكن أن يحول دون إدراكنا "حقيقة" استجاباتنا وقيمنا – المعنوية بصفة خاصة – من مؤثّرات يصعب، بل لا يمكن، التغلّب عليها. الوراد في ذلك الفصل من الكتاب، على كل حال، يتعلّق باستجابات وقيم معنوية أكثر مباشرة - وأيسر قراءة من ثمّ – مما نحن بصدده في هذا المقام؛ فلا مناص من الإقرار بأن مسألتنا تنطوي على قدر عميق من التعقيد، ولكن من الخير في المقابل الصبر على مشقة الحساب – المعنوي لا ريب، لا سيما في ظلال اختلافاتنا الحادة في المرجعيات – المتعلّق بمحصلة تفاعلات طاقاتنا السلبية والإيجابية، وذلك بُغية التحقّق من أن تلك الطاقات لا تفنى ولا تستحدث من العدم في إطار وجودنا المعزول بصرف النظر عن مدى اتّساعه، بحيث يظل مجموع تلك الطاقات ثابتاً مهما تبلغ حدّة التفاعلات وتبايُن تفاصيل ما تفضي إليه من انتقالات متزامنة شديدة التداخل مما هو سلبي إلى ما هو إيجابي والعكس.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])