استطاع فيلم الأرض أن يؤرخ لنا مشاعر الفلاح المصري عندما تتعرض أرضه للاغتصاب من قبل المعتدي، وبسالة الفلاح المصري في النضال حتى الموت للحفاظ على أرضه التي هي في ميزان معتقداته تساوي العِرض.
الفن بلا شك يستطيع أن يؤرخ ما لا يؤرخه مؤرخ، فالمشاعر والأحاسيس التي تنقلها لنا شاشة العرض لا يمكن لأي مؤرخ أن يصفها بالكلمات المسطورة، بينما تستطيع الصورة أن ترسمها بمنتهى الدقة، ونظراً لكون يوسف شاهين يمتلك من العبقرية أن يقوم بترسيم العناصر المرئية ليصل إحساسه من خلال الممثل إلى المشاهد عبر شاشة العرض، ففي فيلم الأرض قام شاهين بتوظيف القراءة المرئية للعين البشرية عبر عدسة الكاميرا لشرح ما يدور من أحاسيس في دواخل النفس الإنسانية لذلك الفلاح الوطني "محمد أبو سويلم" الذي آبى أن يستسلم لضغوط وابتزاز المعتدي على أرضه وأعوانه، فالأرض بالنسبة له هي كيانه وكرامته، إن ضاعت ضاعت معها العزة والكبرياء؛ لذلك تهون الروح في سبيل الحفاظ عليها.
نرشح لك: "انتصار الشباب" و"عفريت مراتي" ضمن "كنوز البحر الأحمر"
قدم شاهين مجموعة من الرموز ذات الدلالات الهامة بالفيلم، جاء أولها في شخصية "صفية"، رغم أن المشاهد للعمل سيراها هي تلك الفتاة الجميلة التي يحلم جميع شباب ورجال القرية بالزواج منها، إلا أن الحقيقة هي رمز "لمصر"، تلك البلد التي تمتلك من المزايا والسمات ما يجعلها محط أطماع للدول الإمبريالية؛ وكتاب التاريخ يشهد بذلك، ومن الرموز الهامة أيضاً "أرض محمد أبو سويلم" والتي ترمز إلى أرض سيناء، والتي كانت في وقت إنتاج الفيلم وعرضه تحت الاحتلال الصهيوني، أما كفاح أبو سويلم وعبد الهادى وأهل القرية فكان رمزا لحرب الاستنزاف التي أعلنتها مصر على الاحتلال الصهيوني، وشارك المواطن المصري جنباً إلى جنب مع أبناء الجيش المصري رافضين الاستسلام والإذعان لمحتل حقود غاشم، يعتقد أنه يستطيع أن يؤسس دولته على أشلاء أبناء مصر وفلسطين، معتدي يرى نفسه أعلى شأناً من أصحاب الأرض.
جسد شاهين هذه النظرة في مشهد عبقري عندما طلب سعادة البيه -المعتدى على الأرض- من العمدة إحضار الكلب حاملاً إياه، مشهد يؤرخ لنظرة المعتدي الدونية لاصحاب البلدة التي يسيطر عليها بالقوة والسطوة، ومشهد سحل محمد أبو سويلم لرفضه تسليم أرضه للمعتدي، ذلك المشهد الذي يذكرنا بمجازر العدو البريطاني في مصر وحادثة دنشواي الشهيرة التي وقعت في 14 يونيو 1906م بين ضباط الجيش البريطاني وفلاحي قرية دمشواي المصرية التابعة لمحافظة المنوفية غرب الدلتا، حيث حدثت معركة بين الفلاحين وخمسة ضباط إنجليز وتطور الأمر إلى مقتل عدد من المصريين بالنار بينهم امرأة، ووفاة ضابطٍ إنجليزي بضربة شمس. كان رد الفعل الإنجليزي وبالأخص اللورد كرومر المعتمد البريطاني قاسياً جداً وسريعاً، فقد أقام محكمةً عرفيةً عقدت أولى جلساتها في 24 يونيو "بعد تحقيقٍ دام أحد عشر يوماً فقط"، وقدّم 52 من أهل القرية للمحاكمة بتهمة القتل العمد، ألصقت التهمة بـ 36 منهم. حُكم بإعدام الإمام حسن محفوظ وثلاثة قرويين، وآخرون تراوحت أحكامهم بين الأشغال الشاقة المؤبدة وخمس عشرة سنة، وسبع سنين، وسنة، وآخرون بالجلد خمسين جلدةً، وتقرر تنفيذ الأحكام ثانيَ يوم صدورها دونما طعنٍ وفي قرية دنشواي نفسها وأمام الأهالي.
ولأن الفيلم بأحداثه يسافر عبر الزمان والمكان، فإن رمزية أحداثه تأخذنا إلى مجازر الكيان الصهيوني بفلسطين، فلا ينسى أحد منا مجزرة دير ياسين، التي تفوقت في بشاعتها على الهولوكوست، التي يستغلها الكيان الصهيوني لابتزاز العالم مادياً وسياسياً، مجزرة دير ياسين مجزرة لا يجرؤ إبليس بجباروته أن يتجرأ على فعلتها. مذبحة دير ياسين هي عملية إبادة وطرد جماعي نفذتها في عام 1948 مجموعتا الإرغون وشتيرن الصهيونيتان في قرية دير ياسين الفلسطينية غربي القدس. كان معظم ضحايا المجزرة من المدنيين ومنهم أطفال ونساء وعجزة.
كانت مذبحة دير ياسين عاملاً مهمّاً في الهجرة الفلسطينية إلى مناطق أُخرى من فلسطين والبلدان العربية المجاورة لما سببته المذبحة من حالة رعب عند المدنيين، حيث قامت عناصر من منظمتي (الأرجون وشتيرن) بشن هجوم على قرية دير ياسين قرابة الساعة الثالثة فجراً، وتوقع المهاجمون أن يفزع الأهالي من الهجوم ويبادروا إلى الفرار من القرية. وهو السبب الرئيسي من الهجوم، كي يتسنّى لليهود الاستيلاء على القرية. انقضّ المهاجمون اليهود تسبقهم سيارة مصفّحة على القرية وفوجيء المهاجمون بنيران القرويين التي لم تكن في الحسبان وسقط من اليهود 4 من القتلى و 32 جريحا. طلب بعد ذلك المهاجمون المساعدة من قيادة الهجانه في القدس وجاءت التعزيزات، وتمكّن المهاجمون من استعادة جرحاهم وفتح الأعيرة النارية على القرويين دون تمييز بين رجل أو طفل أو امرأة. ولم تكتف العناصر اليهودية المسلحة من إراقة الدماء في القرية، بل أخذوا عدداً من القرويين الأحياء بالسيارات واستعرضوهم في شوارع الأحياء اليهودية وسط هتافات اليهود، ثم العودة بالضحايا إلى قرية دير ياسين وتم انتهاك جميع المواثيق والأعراف الدولية حيث جرت أبشع أنواع التعذيب.
فيلم الأرض قدم نماذج رمزية لانتهاجات المعتدي على أرض الغير بدون وجه حق، وكيف يستخدم هذا المعتدي كل أشكال التنكيل والتعذيب وانتهاك مواثيق حقوق الانسان والأعراف الدولية والإنسانية، خاصة وأن الفيلم تم إنتاجه وعرضه عقب نكسة 67 وخلال فترة حرب الاستنزاف، فكان فاضحاً وكاشفاً لجرائم الكيان الصهيوني وعصاباته المسلحة بحق الشعب المصري وخاصة بأهالى سيناء وأسرى الحرب من أبناء مصر والجيش المصري، فلا أحد ينسى القتل الجماعي لأسرى الجيش المصري العزل بدم بارد يدل على وحشية عصابات الكيان المسلحة، وفي مقابل ذلك كانت قوة وشجاعة أبناء الجيش المصري في دفاعهم عن أرضهم ورفضهم للهزيمة، فسجلوا أعظم مواقف في تاريخ مصر الحديثة بفترة حرب استنزاف، واكتملت عظمتهم بتحقيق أعظم انتصار لاستعادة أرض سيناء الغالية التي دفعنا ثمنها دماً غالية من دماء شهداءنا الأبرار، لذلك فمن يتخيل أن نتنازل عن حبة رمل منها هو أما واهم أو مجنون غير واعي لعقيدة الشعب المصري الوطنية ووعلاقته بأرضه ووطنه.