وقفنا مراراً بتفاصيل متباينة بحسب ما يقتضيه كل سياق على أنه لا حقيقة مطلقة؛ ولكن حتى إزاء ما نتواضع عليه – لأيٍّ من الدوافع في أي زمان ومكان – بوصفه حقيقة، فإن تلك الحقيقة التي نتواضع عليها تنشأ وهي مرتبطٌة بالضرورة بتاريخ صلاحية؛ ومدّة صلاحية الحقيقة – التي نتشبّث بها لهذا السبب أو ذاك – تقصر أو تطول، لكن نهايتها قادمة لا محالة، ليس فقط بما يغيّر طريقة قبولنا لما كنّا نراه حقيقة وإنما بما يكاد يدفعنا إلى إلقاء تلك الحقيقة وقد باتت بالية في سلةّ مهملات المسلَّمات.
العمر الافتراضي للحقيقة، أو تاريخ صلاحية الحقيقة، تعبير يمكن النظر إليه كما لو كان بمثابة الهدنة في صراعنا الفكري في مواجهة الحقائق المتوهّمة - أو الحقائق المشتهاة - إذا كان تعبير "لا حقيقة مطلقة" صادماً أو عصيّاً على الاستيعاب والاستساغة.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: تطوير الذات وثبات ذواتنا.. الفصل الثلاثون من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"
ولكن الحياة تبدو مستحيلة بدون حقائق نخترعها لننافح دونها، حقائق مصطنعة من أجل منحنا شرعية ارتكاب أيٍّ من الأفعال في أيٍّ من الأوقات على صعيد ما. بكلمات أخرى، تبدو الحياة مستحيلة بدون اجتراحنا فن التمثيل بصرف النظر عمّا بحوزتنا من الموهبة ضمن ذلك الفن؛ والأرجح أننا ننجح في اقتحام الحياة بقدر موهبتنا/قدرتنا على التمثيل على الصعيد الذي نختار أن نبرع فيه، أو – للدقة - الصعيد الذي نجد أنفسنا مدفوعين بقوة تلقائية للمضي فيه.
والحال كتلك، إذا كان لا مناص من اختراع الحقائق فلا غرابة من أن يكون لكل حقيقة مخترعة من أجل غرض ما عمرٌ افتراضي ينقضي بانقضاء ذلك الغرض، وانقضاء الغرض منوط بدوره بـ"حقيقة" أخرى مفادها أن كل شيء يتغيّر، وبالتعبير الأكثر جرأة: كل كائن (معنوي أو مادي) يتلاشى ليحل محلّه كائن آخر يقوم مقامه يشبهه بدرجة ما أو يختلف عنه تماماً؛ وربما تنشأ كائنات/حقائق أخرى نشوءاً جديداً (على الأقلّ ظاهريّاً) وليس من رحم كائنات/حقائق أخرى - تلاشت – لتحلّ محلّها.
لا يُعنى المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الصادر في ترجمته العربية لعادل زعيتر عن دار "الأهلية للنشر والتوزيع" في عمّان سنة 2016 بعنوان "حياة الحقائق"، لا يُعنى لوبون في كتابه هذا بفكرة العمر الافتراضي للحقيقة التي نتأمّلها في مقامنا هذا – على الرغم من أن عنوان الكتاب المترجَم يوحي بذلك - بقدر ما يُعنى كما يقول في المقدمة بـ "البحث في مصادر بعض المعتقدات الدينية والفلسفية والخلقية العظيمة التي وجهت الناس في غضون التاريخ والبحث في تحوّلات هذه المعتقدات".
ولكن ثمة الكثير في كتاب غوستاف لوبون مما يشير إلى حقائق عاشت لأمد طويل ثم تحوّلت/تغيّرت لتحلّ محلّها حقائق أخرى، وإن يكن لوبون يشير إلى الحقائق الأولى بوصفها أوهاماً – أو على الأقل انطباعات شخصية – وإلى ما حلّ محلها بوصفه الجدير إلى حد بعيد بالإشارة إليه على أنه حقائق. في الفصل الخامس من الكتاب بعنوان "بناء المعرفة العلمي" يقول لوبون: "إننا، بنفوذنا دائرة المعرفة العلمية للحوادث، ندخل عالماً جديداً تامّ الجِدّة، ففيه ترى تغيّر مناهج الدرس وتغيّر التفسيرات والنتائج، وفيه ترى أن الإنسان – وقد خرج من نفسه في آخر الأمر – اكتسب سلطاناً عظيماً على الطبيعة التي استعبدته استعباداً وثيقاً في قرون طويلة. وما درسناه آنفاً من يقين ديني وفلسفي وخلقي فقد كان شخصياً، فذلك اليقين إذ كان لاصقاً بنا لم يستند إلى غير العناصر العاطفية والدينية، وذلك اليقين إذ كان تابعاً لآراء زمنٍ ما خضع لتقلبات هذه الآراء. ومناهج العلم قد استبدلت بتلك الحقائق الشخصية حقائق غير شخصية يمكن إثبات كل واحدة منها على حدة فتكون في معزل من الجدل، وأدى البحث العلمي إلى انتقال الروح البشرية من الباطني إلى الخارجي".
يبدو ذلك مغرياً جداً بتخيّل أن البشرية قد تخلّصت (بفعل الثورة/اليقظة العلمية إبّان عصر النهضة) تماماً من سطوة الأوهام "الباطنية" لتشرق شمس الحقائق "الخارجية"؛ ولكن مهما تكن سطوة الظلمات والقوى المؤثرة على صعيدها في العصور الوسطى وما ألقته من معتقدات زائفة فإن اليقظة/الثورة العلمية لم تمتلك في المقابل نواصي الحقائق كاملة ومطلقة بقدر ما ظلّت تقدّم نُسخاً متغيرة (ليست متطورة في كل الأحوال) من الحقيقة. في الفصل السادس بعنوان "القوانين العلمية ونظريات الحوادث" يقول لوبون: "وكانت القوانين العلمية عند كثير من الناس مثال اليقين المطلق، فتُرك هذا المبدأ عندما أصبحت المقاييس العلمية أدق مما كانت عليه... يبدو القانون صحيحاً ضمن بعض الحدود تقريباً ما دامت العوامل المهملة ذات تأثير ضعيف، وهذا التأثير إذا ما عَظُم أضاع القانون صحته وأمكن تلاشيه... ويظهر القانون وثيقاً أحياناً حينما لا يكشف ما لدينا من آلات ناقصة عما فيه من عدم الصحة... فالقوانين العلمية هي إذن ضرب من الحقائق المتوسطة، والقوانين العلمية، وإن كانت كافية عملياً، ليست من الحقائق المطلقة".
لا نزال فيما ورد من اقتطافات من كتاب لوبون هذا مع قدر مستحق من تبجيل جدارة العلم بالتصديق دون إنكار نسبية حقائقه، ولكن ليس بالضرورة بما يشير صراحة إلى مفهوم عمر الحقيقة الافتراضي، أو – بكلمات أخرى – إلى فكرة أن كل حقيقة مثلها مثل كل كائن حي تُولد وداخلها بذرة فنائها.
غير أن المفكر الفرنسي الموسوعي يبلغ على كل حال في الفصل الأخير من الكتاب - بعنوان "الحقائق التي لا تزال ممتنعة والوجوه المجهولة للمعرفة" - درجة رفيعة من الدقة في الإشارة إلى نسبية الحقائق العلمية وإلى ما يجعل الحقيقة المطلقة بصفة عامة بعيدة المنال/مستحيلة؛ يقول لوبون: "اعترف العلماء والفلاسفة منذ زمن طويل أننا لا ندرك من العالم سوى الانطباعات التي يؤثر بها على حواسنا، لا الحقيقة نفسها، فمن مجموع هذه الانطباعات تتألف حقيقتنا... فالعلاقات بين الأشياء، لا الأشياء، إذن، هي الحقائق الوحيدة التي يمكن بلوغها وقياسها، وأية صفة، صوتاً كانت أو لوناً مثلاً، هي علاقة بين أداة خارجية وبين الحواس... والكون هو إذن مجموعة ما في الإنسان من أفكار عن الكون، وذلك بفعل ما يوفق الإنسان لصنعه من العلاقات المصنوعة بين الأشياء... قال هنري بوانكاره: إن الحقيقة، المستقلة تماماً عن النفس التي تتصورها وتبصرها وتحسها، أمر محال، والعالم لو كان خارجاً عن النفس، والعالم لو كان موجوداً حقاً، لظل ممتنعاً علينا... والحقيقة المحسوسة الوحيدة هي علاقات الأشياء".
حتى "علاقات الأشياء" - التي تتكرر إشاراتُ لوبون إليها كما لو كانت التجلّي الأمثل للحقيقة قياساً بـ"الأشياء" نفسها – متغيرة، وذلك التغيّر كما أشرنا مراراً تغيّرٌ ليس بالضرورة من باب التطوّر وصولاً إلى نسخ أفضل من الحقيقة بقدر ما هو تغيّر تفرضه "حقيقة" العمر الافتراضي للحقيقة، أي تاريخ صلاحيتها المطبوع على بذرتها ساعة نشوئها، حتى إذا لم يكن في وسعنا قراءة ذلك التاريخ بوضوح.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])