أنا القادمةُ من رحم الحرب والانقسامات بكل تمظهرات الألم الناجم عنها. جدُّ أبي فلاحٌ من جنوبيِّ سورية، لكن شاءت الأقدار أن تصبغ لكنتنا بلهجة أهل العاصمة حيث ولد أبي، ومع هذا ظلّ اسمنا أهلُ الجنوب.
أعرف تماماً معنى الفقد حين لا يكون مشهداً في فيلم سينمائي أو أسطراً في رواية فحسب. أنا وكثرٌ مثلي قدموا من بلادٍ مختلفة، بكينا بلوعة ٍ بالغةٍ في صالة إحدى الصالات السينمائية في قلب أرق عواصم الدنيا قلباً (القاهرة). أمنا كلنا.. أم الدنيا.. التي يطبطب نيلها على جراح قلوبنا ويخطف أبصارنا عن جروح الحروب الندية، ببريقه الفضي وكأن صوت أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وليلى مراد، قد ذابَ يوماً فاختلطت بمياهه حتى بات النهر، أغنية تبدأ ولا تنتهي. بكينا بلوعةٍ وامتنان ونحن نتابع الرائعة الإنسانية قبل أن تكون نتاجاً فنياً (وداعاً جوليا) لمحمد كُردفاني بضم الكاف -(هذا ما يؤكد عليه مخرج الفيلم عند لفظ اسمه)- وكأنما في اسم هذا الرجُل جرحٌ عميق، يحتاج إلى ضمةٍ فحسب ليرمم صدعه.
مقترحٌ ساحر لفكرة الغفران تجنباً للمزيد من الدماء والألم قدمه الشريط السينمائي الطويل وداعاً جوليا، حالةٌ آسرةٌ شكلها الفيلم بكل مافيه من احتمالات عن كيف يكون وجه الألم وماهيته؟ عن كيف يكون للندم يدٌ طويلة تمتد لتقتلع عينيك وحنجرتك، فتغدو عاجزاً عن الحياة حينما يكون التعويض محالاً، ومع هذا (لا يزال هناك متسع للحياة والأغنيات) المغنية العاقر التي تعجز عن إنجاب طفل بينما تقرر أن تنجب عشرات الأغاني. لا تستسلم منى للقدر ولا تستكين لفكرة النجاة من العقاب، بل تذهب لمواجهة مصيرها في مسرح جريمة لم تقصدها لكنها تورطت بها وتحاول بكل ما أوتيت من قوة التكفير عن ذنبها (فهل تمحو الحسنة السيئة؟) ربما.. ربما قد تساعد الإنسانية في دواخلنا على إيقاف مسارب الشر والدماء والكراهية من التدفق.
يطرح الفيلم سلسةً من الأسئلة التي بدت لوقت طويل غير قابلةٍ للإجابة. لكن محمد كُردفاني، يجيب ببسالة فارسٍ يقول شعراً وسط المعركة في خضم الموت والدماء، فتسكتُ طبولُ الحرب ويخرُّ المقتتلين بإصغاء، ما الغاية من إنجابِ أطفالٍ ليحملو البنادق في الغد، في حين كان بالإمكان أن تكون الأغنيةُ كنايةً؟ هل كانت منى هي العاقر في فيلم وداعاً جوليا.. موازاةً بجوليا التي أنجبت دانيال، الذي سيحمل السلاح انتقاماً، منى التي انتصرت للمغفرة، انتصرت للموسيقى وللشدوّ… أتاها يوماً زوجها بعصفورٍ جميل في قفص. فالتقط محمد كُردفاني اللحظة بمنتهى السلاسة، قفصٌ كبيرة في داخله منى.. منى التي ظنت أنها نأت بنفسها عن الفقر والخوف من الحرب والتنعم بالأمان حين تزوجت بالرجل القوي ميسور الحال، لكن حرباً من نوعٍ أعقد قد بدأت، حربٌ ستخوضها ضد نفسها.. ضد أحلامها.. ضد حنجرة المغني الذي يريد أن يشدو.. ولا يفع.
لا يمكن للحظة درامية أن تكون أكثر عبقرية من اللحظة التي وضعت فيها المتضادات كلها في لقطةٍ واحدة لتنتج معنى جديد بالغ العمق الإنساني وذلك حين التقط كُردفاني كاتباً ومخرجاً لحظة اعتلاء منى التي تختبئ تحت عباءةٍ سوداء ونقاب لا يظهر منها إلا عينيها، المسرح لتعزف على الغيتار الكهربائي بعنفٍ وجمال خالص. كانت لحظة تجلي وانعتاق صريح، كادت أن تصل لذروتها لولا أن الخوف شلَّ حنجرة المغنية ولجمها عن الشدو بأعلى ما أمكن. الخوف.. كلنا مع أبطال الحكاية في لحظة كنا أسرى الخوف.. الخوفُ من الحربِ.. الخوفُ من التشظي والانقسام ِوالانفصال.. على المستوى الشخصي.. حين ننفصل عن أحلامنا.. حين ننفصل عن ذواتنا فنصير عدة شخوصٍ بأوجه متعددة.. الانفصال والانقسام بمعناه ومظهره السياسي والجغرافي.. كلنا أسرى لفكرة الخوف من الحقيقة.. نتوارى خلف كذبة تتوارى خلف كذبة.. خلف كذبة.
ما هذا الألم الذي يجعل أنثى سمراء في عينيها ألف شمس تغتسل بالدخان، تتشح بالدخان حتى تكاد تصبغ كل ما فيها بالدخان، حتى صوتها.. دخان الطلح والخُمرة؟ أم دخان ُ الحربِ والألم؟ أم هي فريضةٌ ليكونَ لكل النساء في أسرةِ أزواجهن ذات الرائحة والطعم. تحاول منى أن تكون كالأخريات، أن تغير رائحة جلدها.. فهل تنجح؟
يطرح الفيلم سلسلةً من الأسئلة غير المنتهية وبالتأكيد هي أسئلة فجائية الأثر لمن اختبر الحرب ونام تحت ظلالها الشائكة ولو لليلةٍ واحدة. لتأتي خاتمة الحكاية في (وداعاً جولياً) بمثابة زخةِ مطرٍ على أرضٍ أضناها الظمأ.. النصر للأغنيات.. المجدُ للموسيقا.. المجدُ للغفران. طوبى لمن سمع واحتكمَ لقلبه وعقله ما استطاعَ إليهِ سبيلا.. فهل يرجعُ دمُ القاتل صوتَ القتيل؟ هل تردُ البنادقُ رصاصاتٍ أطلقت من فوهات بنادق موازية؟ ينتصر محمد كُردفاني للأنثى … للرحم الطيب.. المُنجبِ منه.. والعاقر.. لأُمنا حواء منذ الخليقة حتى يومنا.. بانسيابية في اللحظة الأخيرة.. إنها حكايا.. عن جوليا.. ومنى.. وهنا.. وسعاد.. وآلاف النساء. إنها حكاية عن الإنسانية في مواجهة أعقد الأطروحات وأكثرها معقولاً. النصر للإنسانية والفن بهذا الشريط السينمائي الحيّ.