مع صباح اليوم الـ 48 للحرب على غزة، هذا الرقم الشؤم على الأمة العربية لتذكيره بنكبة جيوشها في 1948، لكن اليوم أصبح يشير هذا الرقم إلى العزة والكرامة لصمود المقاومة الفلسطينية في غزة وصمود كل الشعب الفلسطيني في القطاع والضفة والقدس، في مواجهته جيش من أقوى جيوش العالم، يصمد ويواجه بإمكاناته المتواضعة كل هذه الأيام ويُنزل به الخسائر ويُبشر الشعب العربي بأنه هو من لا يُقهر لا جيش المحتل.
مع دخول الهدنة المقررة اليوم أول ساعاتها، ما تزال يد المقاومة على الزناد تحسبًا لأي خروقات تحدث من جانب المحتل كعادته في كل هدنة، وبينما يلتقط العالم المتفرج على الحرب أنفاسه، وجب التذكير ببعض معالم هذه الحرب غير المسبوقة في عدد الشهداء خاصة بين النساء والأطفال (ما يقارب 15 ألف شهيد، بينهم 6 آلاف طفل،8 آلاف امرأة)، وعدد المصابين والجرحى والمفقودين (35 ألف جريح، 7 آلاف مفقود)، هذه المعالم والوقفات لا بد ألا تُنسني حتى بعد تثبيت وقف إطلاق النار أو انتهاء هذه الجولة من الحرب.
أولًا: الدعم الأوروبي والغربي لإسرائيل يثبت بما لا جدال فيه سقوط إنسانية وحداثة النظم الأخلاقية الغربية في بئر انحطاط لا قاع له، وكانت قد بدأت شواهد ذلك مع ورطة الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، غزو أمريكا وبريطانيا للعراق، ورطة الوجود الفرنسي في أفريقيا، والدعم الأوروبي (خاصة بريطانيا وأمريكا) الكبير بأسلحة الدم التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين منذ قيام دولة الاحتلال وقبله وبعده، لكن مع بداية الحرب على غزة وأثناءها وجدنا دعم مريب وغريب لمشاهد الدم وقتل الأطفال وقصف البيوت على ساكنيها من المدنيين ولم يطرف لهذه الأنظمة جفن، في حين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بعد أحداث 11 سبتمبر في أمريكا، وحادثة صحيفة شارل أبدو في فرنسا، والحرب على أوكرانيا، ما يعني أن فكرة حقوق الإنسان لديهم لها ميزان فقد عدالته.
ثانيًا: تحيز وعنصرية ولا مهنية الإعلام الغربي، فوسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية تتبنى بشكل متطرف الرواية الإسرائيلية فقط، وتنقل أكائيب جيش الدفاع بلا تثبت، وترفض الآراء المغايرة لها وترفد موظفيها الذين يرون رواية مخالفة، بما يعني أن اللوبي الصهيوني متحكم في وسائل الإعلام الغربية والأمريكية، ومع تشابه الأكاذيب في كل وسائل الإعلام، كفر بها الشعب الغربي وبدأ يتلفت على وسائل الإعلام البديلة فوجد حقائق مصورة بالصوت والصورة، ما يؤكد على ضرورة وأهمية النشاط العربي على كل وسائل الإعلام المتاحة ليروي الخبر برؤيته ويضيق على المحتل مساحة الكذب.
ثالثَا: أثبتت الحرب ومقدماتها وأحداثها هشاشة الدولة الإسرائيلية بجيشها المسلح بأحدث أسلحة العالم أمام غضب الشعب الفلسطيني وفدائية المقاومة، ما يعني أننا أمام شعب باسل وجب تقديره ودعمه في حق تقرير مصيره، هذا الدعم هو واجب الآن وهنا، بحكم الإنسانية والأخلاق والدين.
رابعًا: مع تتابع صور الضحايا من الأطفال والنساء وقسوة مناظر الدم العربي الذي تسفكه آلة القتل الإسرائيلية، وجدنا الشعوب العربية تنتفض في الأيام الأولى للحرب ثم ما ضعفت انتفاضته ومظاهراته في الشوارع تنديدًا بهمجية المحتل ودعمًا لحقه في المقاومة، في حين أن شوارع الدول الأوروبية ما زالت مظاهرات الأحرار مستمرة فيها إلى هذه اللحظة. هذه الملاحظة تقول إن الشعوب العربية هي الأخرى تحت الحرب، حرب الغلاء والمرض، حرب يومية لتلبية الاحتياجات الأساسية من الطعام والمسكن والدواء، ويعانون بشكل يومي من قصف الأسعار وارتفاعها، ما يعني أن تقييد الشعوب العربية بإفقارها وإشغالها بأزماتها الداخلية هو هدف ومقصد من الأنظمة الغربية التي يهمها تأمين إسرائيل من هبّات الشعوب العربية، واحتواء أو إقناع أو تحييد النظم العربية من التدخل عبر الإشارة إلى القواعد الأمريكية في المنطقة العربية والتلويح باستخدام سلاح الديون الاقتصادية ، ما يؤكد أن وجود إسرائيل في المنطقة العربية يهدد وجود سيادة للعرب على أرضهم على مستوى الشعوب الحكومات.
خامسًا: مشاهد صحوة الشعوب الحرة، ومظاهرات أحرار العالم الداعمة لفلسطين خاصة في أمريكا وبريطانيا والسويد وكندا وألمانيا وفرنسا وأسبانيا، ومواقف الدول التي سحبت سفراؤها من إسرائيل مثل بوليفيا وكولومبيا وتشلي وهندوراس وبيليز وجنوب أفريقيا، وتصاعد ظهور الحركات اليهودية المناهضة لإسرائيل وجرائمها في فلسطين، وتداول أسماء وظهور أصوات اليهود المنصفين المناهضين للصهيونية مثل المفكرين (إيلان بابيه، إيال وايز مان، هنري لورانس، آفي شليم، نورمان فينكلشتاين، كارل صباغ، فرانز فرفل، أوسيب ماندلستام، ناثانيل وست، ليونيل ترلنج، ألبرتو مورافيا)، يحتم وجود كيان عربي يستثمر هذا الحراك ويحوله إلى حركة مستمرة ومنتشرة ومتزايدة في دعم وإسناد الحق الفلسطيني ليكون في مواجهة خداع اللوبي الصهيوني للرأي العام خاصة في أوروبا وأمريكا.
سادسًا: استدعاء سلاح المقاطعة للمنتجات والبضائع والشركات والعلامات التجارية الداعمة لإسرائيل من الشعوب، أثبت كفاءة منقطعة النظير في تحقيق خسائر لهم، في مقابل مكاسب كبيرة للمنتجات العربية المحلية والإقليمية، ما يحتم على الشعوب استمرار هذه المقاطعة، وتشجيع الأنظمة للشركات العربية ورجال الأعمال العرب لإنتاج ما ينقص من بضائع ومنتجات لصناعات عربية بديلة لا تدعم آلة القتل لأهلنا، هذه المقاطعة الاقتصادية ذات الجدوى علينا والخسائر على العدو، وجب أيضًا توسعها لتشمل المقاطعة بكل ملفاتها الثقافية والأكاديمية والإعلامية والفنية والرياضية والسياسة لتحقيق عزلت المحتل عن كل سياق عربي.
سابعًا: استثمار اهتمام الإعلام العربي بالحرب على غزة، لتعريف الأجيال الجديدة بالقضية الفلسطينية وتذكير أنفسنا بها، هذه الأجيال التي لم تحضر زمن الانتفاضة ولا رأت مشاهد مقتل محمد الدرة واغتيال أحمد ياسين والرنتيسي، لكنها رأيت ما يزيد عن 1200 مجزرة صهيونية لأطفال غزة خلال هذه الحرب، هذا التعريف يجب أن يكون مستمر ومُبدع ومؤسسي حتى لا "يموت الكبار وينسى الصغار" كما تقول جولدا مائير، وما حدث في غزة منذ 17 سنة فقط به آلاف الدروس التي تُحكى، ففيه:
ألف قصة لفدائي من غزة.
ألف قصة لمثلث من غزة أسعد دائرية الأرض.
ألف قصة لطبيب تحت الحصار والحرب.
ألف قصة لإعلامي تحت القصف.
ألف قصة لحياة بديلة تحت الحرب.
ألف قصة لبيت نازح.
ألف قصة لبيت استقبل عشرات نازحين.
ألف قصة من بيت مُحصار.
ألف قصة لبيت تم قصفه.
ألف قصة لمسجد تم قصفه.
ألف قصة لمبتوري الأطراف في غزة.
ألف قصة لداعمين في الغرب لفلسطين.
ألف قصة لمظاهرة في شوارع أوروبا.
ألف قصة ليهودي حر ضد إسرائيل.
ألف قصة لمتطوع تحت الحرب.
ألف قصة لطفل شهيد.
ألف قصة لأم شهيد.
ألف قصة لأب شهيد.
ألف قصة لرسائل من تحت الحرب.
ألف قصة خيانة عربية لفلسطين.
في النهاية، تنتصر غزة، تنتصر في الجرأة على محتل تدعمه أقوى اقتصاديات العالم، تنتصر في النيل من الجيش الذي يدعي أنه لا يُقهر بالأسر والقتل وإنزال به الخسائر، تنتصر في دحض فكرة الدولة الأمنية الآمنة للصهاينة، تنتصر في كشف همجية ولا إنسانية وكذب المحتل الذي ينتقم لفشله في المعارك بقتل المدنيين، تنتصر في جمع أحرار العالم حولها، تنتصر بشموخها وصمودها وجاهزيتها للمواجهة العسكرية رغم الفقر والحصار، تنتصر في كشف إدعاءات العروبة للأنظمة وكشف خيانات النخبة وضعاف النفوس، تنتصر حتى في شهدائها الذين ارتقوا بموت مدوي في ساحات الشرف والكرامة، تنتصر في جمع شمل شعب كله مُقاوم في كل الأحياء والمدن، وفي النهاية تنتصر فلسطين.