ليس الغرض من السؤال أعلاه السخرية التي كثيراً ما يطلقها الرجال على سبيل المزاح وجوهرُها لا يخلو من جـِـدّ، كالشكوى من أنهم بحاجة إلى جمعيات مناصرة الرجال على شاكلة الجمعيات التي تنافح عن النساء، أو المطالبة بالاحتفال بيوم الرجل العالمي أسوة بيوم المرأة العالمي، دع عنك تبادل الأدوار الشهير الذي طالما لمز به الرجالُ النساءَ في أوقات الحروب. وكانت حواء من الفطنة بحيث ساندت الرجل في كفاحه ذاك حتى تمـّـت تلبية أحد مطالبه الساخرة على الشاكلة السابقة فمــنحته كثيرٌ من قوانين العمل المتقدمة إجازة الأبوّة أسوة بإجازة الأمومة بعد الولادة كي يتمكن من النهوض برعاية المولود وأمـّـه معاً، وهكذا عرف آدم خطورة المزاح مع حوّائه في أمور كتلك.
سؤالنا الذي يتضمّنه عنوان المقال يستنكر أن يـُـوصـَـف مجتمعنا تحديداً بالذكوري ظنّاً بأن العالم يعج بالمجتمعات الأنثوية كما قد يحسب البعض عندنا وهو يفاجأ بمصطلح "المجتمع الذكوري" يـُـمطـَـر عليه من كل صوب؛ ويستنكر السؤال أن يُرمـَـى مجتمعنا بالذكورية ظنّاً بأن العالم ينعم بـ"عدل الموازين" فيما يخص حقوق الرجل والمرأة؛ و"عدل الموازين" مصطلح استخدمه المفكر المصري عباس العقاد في سياق مغاير إشارة إلى الميزان الذي يساوي كيلو الذهب بكيلو الحنطة و الشعير.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: ما يخسره الرجل عندما يكون صديقاً لزوجته.. الفصل الأول من كتاب "جينات أنثويّة"
العالم بأسره مجتمع ذكوري، وإذا تجاوزنا مملكة النحل وما قد يكون على شاكلتها من استثناءات فإن ذكورية المجتمع تهمة تطال الحيوان الذي يمثل الفطرة دون ادّعاء أو لَيّ لعنق الطبيعة؛ ولكن لأن تلك المقارنة قد تمثل في ذاتها حذلقة أو لـيــّـاً لعنق المنطق الإنساني فإننا نتجاوزها سريعاً ونعود إلى العالم الإنساني، عالم اليوم تحديداً وليس الأمس بعيده أو قريبه، لنزجّ بأنفسنا وبمعارضينا (معارضاتنا؟) في معترك الأسئلة المواجِهة.
وأول الأسئلة المواجِهة هو: هل عصرنا هذا يمثل مجتمعات غير ذكورية في بقاع العالم التي بلغت من الرقيّ شأوه الأبعد مادياً وفكرياً على مدى التاريخ؟ الإجابة الدقيقة على هذا السؤال مهمة للغاية لأنه إذا لم يكن أيٌّ من تلك المجتمعات قد فارق صفة الذكورية بعدُ فإلام نتطلّع ونحن لا نزال مادياً وفكرياً أبعد ما نكون عن ذلك "الترف الفكري"؟ وإذا هبّ أحدهم (إحداهن؟) فزمجر بأن إنصاف المرأة ليس ترفاً فكرياً فإنني سرعان ما أبادر مـُــثــَـنــِّــيـاً ومـُـثــْـنـيـاً على كلامه، لكنني سرعان ما أعود مذكِّراً بأن إنصاف المرأة شيء والتــَـوقُ إلى مجتمع يتناصف فيه الرجل والمرأة الحقوق والواجبات على طريقة " عدل الموازين" شيء آخر.
ثاني الأسئلة المواجـِـهة هو: إذا افترضنا جدلاً أننا نتفق على أن المقصود من الحملة على المجتمع الذكوري هو حضّ ذلك المجتمع على السعي باتجاه انصاف المرأة مجملاً وليس مساواتها بالرجل حرفياً، فما هو القدر المنشود من الحقوق الذي يجب انتزاعه لصالح المرأة من الرجل في مقابل ما يجب قذفه في وجه الثاني من واجبات الأولى؟ الحق أن جوهر السؤال هو ماهية تلك الحقوق والواجبات وليس قدرها ابتداءً. ذلك سؤال آخر تـنـبـغـي الإجابة عليه بدقة، فالمتابع لحملات مجتمعنا الشعواء على الذكورية يجد أنها تشتمل على الاستغاثة من جبروت الذكورية أو التحريض للثورة عليه أضعاف ما تشتمل على أجندة ذات بنود محددة الأولويـّـات - من أجل النهوض الأنثوي - سواءٌ في إطاري الاستغاثة والتحريض.
في المجتمع الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة قبلة أنظار المتحررين والمتحررات، لا تزال لافتات مناصرة المرأة تملأ الشوارع؛ وبعض تلك اللافتات يضع عنوان الملاذ الذي يُـؤوي المرأة حالَ الاعتداء عليها وأرقام هواتف الاستغاثة كما لو أن المجتمع يعيش حالة طوارئ إزاء اعتداءات ذكورية غاشمة. لن نتلقف تلك الإشارات كما تفعل العقول الموجَّهة/الموجِّهة للتدليل على أننا أفضل حالاً في التعامل مع المرأة لأن شوارعنا خِلوٌ من مظاهر حالة الطوارئ الأنثوية تلك، فالوضع هنا سيشبه محاولات التدليل على أننا ننعم بالطمأنينة والسعادة أكثر من السويديين لأن ارتفاع معدّلات الانتحار في السويد هو الأعلى عالمياً (أو هكذا كان يوماً ما) ونحن لا نجرؤ على إعداد أي تقرير "نظيف" عن محاولات الانتحار لدينا (عرباً أو شرقيين أو سكاناً للجزء الجنوبي من العالم، سـَـمــِّـنا ما شئت).
الواضح أنهم يملكون جراءة الإعلان عن أية مشكلة، ولكن ما يطيب لنا أن نتلقفه هنا هو أن المشكلة المعلن عنها في المثال المقتبس (العنف الذكوري ضد الإناث) تشير بجلاء – في نهاية ما تشير إليه - إلى أن المجتمع لا يزال هناك ذكورياً. أين يصب احتفاء البريطانيين منذ عقود بـ"حديدية" مارغريت تاتشر التي حكمتهم لسنوات طويلة؟ وعلام يدل احتفال أنصار المرأة من الألمان وغيرهم عندما تقلّدت أنجيلا ميركل مؤخراً منصب مستشار ألمانيا التي يحرّكها مجتمع لا يصفه متحذلقونا بالذكوري؟ بل كيف يصف أولئك المتحذلقون (المتحذلقات؟) طيّبو القلب صخـَـبَ الولايات المتحدة - بجلال قدرها – في الانتخابات الأخيرة حين تسابقت في حلبتها امرأة مدفوعة جملة (وتفصيلاً ؟) بقوى وتاريخ رجل حكم البلاد ولا يزال صيته مدوّياً في أرجائها وأرجاء العالم؟ ألا تُدلّل تلك الأمثلة حديثة العهد على أن المجتمع الغربي لا يزال ذكورياً يُحسن الاحتفاء بشذوذ البروز الأنثوي حين يكسر القاعدة الذكورية؟
ماهي حدود التطلُّعات الأنثوية في معاركها نحو مجتمع غير ذكوري؟ سؤال مواجهة آخر أشك في أن أيّـاً من روّاد تلك المعارك يعرف الإجابة عليه بدقة، بل إن معظم أولئك الروّاد (الرائدات؟) على الأرجح لا يعرف عن مدى تطلُّعاته ما يتجاوز البداية التي دعت إلى الرفض والثورة بقدر يُذكَر.
لست بصدد أن أحصي على الآخرين والأخريات أنفاساً حـُـرّة (وحـَـرَّى) تتطلع إلى تغيير واقع يجب تغييره، ولا أظنني مزايداً إذا ذكّرت بأنني في مقدمة مناصري المرأة وهي تطالب بحقوقها؛ لكن لا بأس بأن نناقش أولاً ماهية الحقوق موضوع المطالبة، ولا بدّ من أن نتمهّل قبل أن نصوّب أسلحتنا على المجتمع الذي نريد أن نغتال ذكوريّته، فقد نجني على المرأة في غمرة ذلك الاغتيال دون أن نقصد أو ندري إذا لم نحدّد بدقة ماهيّة التغيير المطلوب، سواء استلهاماً لمجتمعات أخرى أو نبشاً في الجوانب الجديرة بالنظر مما غاب عنّا من جوهر ثقافتنا نفسها.
وآخر الأسئلة المواجـِـهة هو: هل تقوى المرأة على تبعات "المجتمع غير الذكوري" إذا قام على أساس "عدل الموازين" – لا أكثر - الذي تــَـقـدَّم ذكره؟ من الخير أن لا يتعجـّـل أعداءُ المجتمع الذكوري الإجابة.