عمرو منير دهب يكتب: أوهام سلطة الرجل.. الفصل الثالث من كتاب "جينات أنثويّة"


كان من شأن هذا الحديث أن ينطلق بصورة عفوية في ظلال مجتمعاتنا العربية والشرقية في مسحة من السخرية على ما يُظنّ أنها مجتمعات تحرّكها سلطة الرجال شبه المطلقة، لولا أنّني رأيت أن أتجول قبل الشروع في كتابة المقال بين ثنايا بعض ما كُتب عن العلاقة/المقارنة بين المرأة والرجل فكان ممّا وقع بين يديّ كتاب جون غراي John Gray الشهير Men Are from Mars, Women Are from Venus، النسخة العربية عن مكتبة جرير بالرياض سنة 2008 بعنوان "الرجال من المريخ، النساء من الزهرة".

يقول غراي: "أكثر شكوى تعبّر عنها النساء ضد الرجال مفادها أن الرجال لا يستمعون. فإمّا أن يتجاهلها الرجل كليّاً عندما تتكلّم، أو أن ينصت إليها لثواني معدودة ويقيّم ما يزعجها، ثم يضع بتفاخر قبعة الخبير ويقدّم لها حلّاً ليجعلها تشعر بتحسّن. إنه يضطرب عندما لا تقدّر إيماءة الحب هذه حقّ قدرها. ومهما كررت إخباره بأنه لا ينصت، فإنه لا يستوعب ذلك ويستمر في القيام بنفس الفعل. إنها تريد التعاطف وهو يظن أنها تريد حلولاً".

يواصل مستشار العلاقات الشخصية (وربما الزوجية تحديداً) الذي لم تسلم نصائحه وأعماله من النقد والاتهّامات، لا سيّما من قبل نفر من الأكاديميين في علم النفس وغيرها من التخصصات ذات الصلة، يواصل: "وأكثر شكوى يعبّر عنها الرجال من النساء هي أن النساء يحاولن دائماً أن يغيّروهم. عندما تحبّ امرأة رجلاً تشعر أنها مسؤولة عن معاونته ليتطور وتحاول مساعدته لتحسين طريقة عمله للأشياء؛ فهي تقوم بتشكيل لجنة تحسين البيت، ويصبح (ذلك) شغلها الشاغل. ومهما قاوم مساعدتها، فإنها تصبر منتظرة أية فرصة لمساعدته أو لإخباره بما يفعل. إنها تعتقد أنها ترعاه، بينما يشعر هو أنها تتحكم فيه، ويريد منها بدلاً من ذلك أن تتقبّله. هذان النوعان من المشكلات يمكن في النهاية أن يُحلّا بدءاً بفهم سبب تقديم الرجال للحلول، وبحث النساء عن إدخال تحسينات".

يبحر بعدها غراي في التفسير واقتراح الحلول على أضواء مفهومه عن طبيعة ودوافع انفعالات وسلوك كلا الجنسين وفقاً لانتماء كلٍّ منهما لأحد الكوكبين (الافتراضيين): المريخ والزهرة. لكن هذا ليس ما تعنينا تفاصيلُه في هذا السياق، بقدر ما يهمّنا التأمّل في ثقافات المجتمعات من بعض مظاهرها التي تختلف إلى درجة أن المفارقة الباعثة على التأمّل في مجتمعٍ ما لا تصبح اعتيادية فحسب في مجتمع آخر وإنما فاقدة تماماً لقيمتها في إطار ثقافة المجتمع الآخر.

والحال كتلك، فإن الحديث عن أية سلطة متوهَّمة للرجل في المجتمع الغربي في هذا العصر يبدو كنكتة/مزحة غير مفهومة لذلك المجتمع الذي لم تعد مشكلته سلطة الرجل إزاء المرأة بقدر ما هي إدارة العلاقة بين الجنسين بصفة عامة، أو بين الزوجين تحديداً كما في المقام الذي اقتطفنا عنه من كتاب جون غراي. أكثر من ذلك، يتغيّر المجتمع نفسه أحياناً تغيّراً شديداً خلال حقبة قصيرة جداً بحيث يصبح ما كان موضوعاً ساخناً للنقاش قبل بضع سنوات مسألة لا تثير الاهتمام الآن، بل ربما مسألة تحفز على قدر من استهجان الطريقة الخجولة للمطالبة بما لم يعد حلماً وإنما أمراً واقعاً في المجتمع اليوم.

على صعيد التجربة الذاتية، وجدتني مضطراً لإجراء بعض التعديلات "التحريرية" على مقالين سبقا هذا المقال كتبتهما قبل حوالي عشرة سنوات تغيّرت خلالها أحوال غير قليل من المجتمعات العربية إلى ما يشبه الانقلاب في بعض الأحيان، في حين ظلّت مجتمعات عربية أخرى على ما هي عليه من الانفتاح الذي هو بطبيعة الحال نسبي قياساً إلى المجتمعات الغربية.

لا تعود الإشارة إلى "أوهام سلطة الرجل" إذن ذات مغزى ذي بال في الغرب وقد تحرّرت مجتمعاته إلى حدّ بعيد من تلك السلطة، باستثناء ما ألمحنا إليه في المقال السابق عن "حقيقة" ذكورية العالم بأسره تقريباً من حيث تسيُّد الرجال مَشاهدَ الحياة بصفة عامة، وهو تسيّد لا يشير إلى سلطة الرجل هناك إلّا بقدر تنازل المرأة نفسها عن حقّها في السلطة حبّاً وكرامة لغايات/قيادات أخرى؛ في حين أن سلطة الرجل في مجتمعاتنا العربية لا تزال مثاراً للانتباه، سواءٌ لوجود طائفة مؤثرة تدعم تلك السلطة دعماً مطلقاً أو بتأثير تيارات تبحر بقوة في الاتجاه المعاكس؛ وفي الحالين – باختلاف المجتمعات العربية طبقاً لطغيان تأثير أحد الاتجاهين على الآخر، وغالباً بتداخل الاتجاهين وتفاعلهما بقوة – فإن الحديث عن "أوهام سلطة الرجل" يغدو حديثاً جديراً بالانتباه بداعي تأمّل المفارقة.

على وجه العموم، يبدو مدى سلطة الرجل كما لو كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالمقدار الذي تسمح به المرأة لتلك السلطة بأن تمتدّ طولاً أو عرضاً أو ارتفاعاً. بكلمات أخرى، فإن المدى الذي يُسمح للرجل فيه بقيادة المرأة على أي صعيد منوط بالرباط الذي تُحكم المرأة القبضةَ عليه فتشدّه أو تُرخيه بحسب رؤيتها (مزاجها؟) في هذه الحالة/اللحظة وتلك.

وربما كان غنيّاً عن القول سوى من باب التأكيد أن حواء من الفطنة بحيث لا تجعل ذلك الرباط ظاهراً، ليس بطبيعة الحال بالمعنى المادي وإنما المجازي ابتداءً؛ فهو رباط مشدود إلى قلبها، وفي غير قليل من الأحيان إلى عقلها الذي كثيراً ما يستهين الرجل بقدراته. والمرأة، على كل حال، لا تجادل الرجل عندما يستهين بقدراتها العقلية بقدر ما تريه كيف يمكن أن تفعل، سواءٌ أكان ذلك بتدبير من عقلها "الناقص" أو وجدانها الطاغي القادر على أن يجلب لها مما تريد ما عجز عقل الرجل "الكامل" عن أن يحتفظ به من المكتسبات.

برغم ما أشرنا إليه من تباين عريض فيما يتعلّق باختلاف المجتمعات في ثقافة العلاقة بين الجنسين، ومهما يبلغ أيّ مجتمع من الانفتاح، تبقى ثمة نزعة تفوّق يضمرها أو يظهرها الرجل وتعرف حواء – في الحالين - كيف تتعامل مع تلك النزعة وتُحكم السيطرة عليها بحسب ما يحيط بها من متغيرات وما في حوزتها من أدوات، إمّا بالمواجهة الصادمة إصراراً على الرفض وإمّا بتعزيز تلك النزعة في نفس آدم ثمّ توجيهها لصالحها من حيث لا يحتسب أسدُها الهصور.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي ([email protected]