ليس من الدقة بحال تنميط سلوك المرأة تجاه الرجل؛ ولن أستشهد هنا بموقف الأم أو الأخت أو الابنة أو الزوجة تجاه الرجل نفسه، بل بموقف المرأة نفسها تجاه أربعة رجال أحدهم أبوها والثاني أخوها والثالث ابنها والرابع زوجها. تتباين استجابات حواء تجاه الرجال الأربعة بما يصعب إجماله في قاعدة سلوكية/نفسية واحدة، وإن يكن التباين الأوضح يتجلّى في استجاباتها تجاه الزوج تحديداً مقابل الثلاثة الآخرين: الأب والأخ والابن. وبطبيعة الحال، فإن سلوك الرجل في المقابل لا يمكن تنميطه فيما يتعلق باستجاباته تجاه المرأة وإجماله في قاعدة سلوكية/نفسية واحدة؛ ومجدداً فإن التباين الأوضح في استجابات الرجل يتجلّى في ردود أفعاله بوصفه زوجاً مقابل كونه أباً أو أخاً أو ابناً.
في سيرتها الذاتية بعنوان Becoming، نقلاً عن الترجمة العربية بعنوان "وأصبحتُ" عن دار نوفل ببيروت سنة 2019، تقول ميشيل أوباما Michelle Obama: "كان فارق السن بيني وبين كريغ أقلّ من سنتين. ورث أخي عينَي أبي الدقيقتين، وروحه المتفائلة، وطباع أمي الحادة. لطالما كنّا قريبين جداً، وربما يكون مرد ذلك إلى رابط قوي شعر به كريغ نحو أخته الصغيرة منذ البداية. ثمة صورة قديمة لنا، بالأسود والأبيض، جمعتنا نحن الأربعة جالسين على كنبة، تظهر فيها أمي مبتسمة، وهي تضمني إلى حضنها، بينما يبدو أبي بملامح فخور وجادة، آخذاً كريغ في حضنه... في تلك الصورة كنت بلغت حوالي الثمانية أشهر... بدا كريغ إلى جانبي كسيّد أنيق، يضع ربطة عنق في شكل فراشة وجاكيت، وكانت نظرته تنضح بالجدية. كان كريغ في عمر السنتين؛ وقد بدا عليه الشعور بالحرص والمسؤولية، إذ امتدّت ذراعه نحوي، والتفّت أصابعه حول معصمي السمين".
وفي موضع لاحق ليس بعيداً عن موضع الاقتطاف السابق، تقول ميشيل أوباما عن أبيها: "الأكيد أن أبي كان يسير بعرج بسيط في أول حفل موسيقي كبير لي على البيانو، فعجزت قدمه اليسرى عن اللحاق باليمنى. إنّ كلّ ذكرياتي عن أبي تتضمّن إشارة ما إلى إعاقته، وإن لم يقرّ أحد منّا بهذه التسمية. ما عرفته حينذاك، هو أن حركة أبي كانت أبطأ بقليل من باقي الآباء. كنت أراه أحياناً يتردّد قبل صعود درج، كمن يخطّط لكل خطوة يقوم بها. وعندما كنّا نذهب للتسوّق في مجمّع تجاري، كان يلقي بنفسه على أحد المقاعد مكتفياً بحراسة الأكياس، أو بقيلولة سريعة، فيما يتنقّل الجميع بين المحال".
أما باراك أوباما، الذي سيصبح زوجها لاحقاً، فتتحدّث عنه ميشيل في نهاية الفصل الأول – بعنوان "وأصبحت أنا" – كما يلي: "كان باراك أوباما قد أثار بلبلة داخل المؤسسة (Sidely & Austin) آنذاك. فهو قد أنهى حديثاً سنته الأولى في كلية الحقوق، ونحن في العادة لا نستقبل للوظائف الصيفية إلا طلاب السنة الثانية. لكن الإشاعات التي راجت عنه وصفته بالشخص الاستثنائي. وعرفنا أن أستاذته في هارفارد – وهي ابنة شريك عضو في مجلس إدارة شركتنا – قالت عنه إنه الأكثر موهبة بين طلاب الحقوق الذين عرفتهم كافة. كما أنّ سكرتيرات رأينه حين أتى لإجراء مقابلة العمل، ذكرن أنه، إضافة إلى ذكائه الواضح، كان رجلاً جذاباً. لكنني شككت في الأمر، فقد علّمتني تجربتي أنه يكفي أن يرتدي رجل أسود متوسط الذكاء بزّة حتى يصاب البيض بالجنون. لم أظن أن باراك يستحق كل هذه الجلبة... على رغم مقاومتي الحماسة التي سبقت وصوله، وجدت نفسي معجبة بباراك بسبب ثقته في نفسه وجدّيته. كان شخصاً منعشاً وغير تقليدي وغريباً بأناقته. مع ذلك، لم أرغب مرة واحدة في مواعدته. كنت مرشدته في شركة المحاماة، إضافة إلى أنني كنت قد قررت ألا أدخل في علاقة، لانهماكي في العمل وعدم قدرتي على تخصيص الجهد المطلوب لها. كما أن باراك أشعل في نهاية الغداء سيجارة، ما أثار حفيظتي وقضى على أي اهتمام بمواعدته، هذا إن وُجد أصلاً".
وكمن يشاهد فيلماً سينمائياً يعرف نهايته من مشاهدات سابقة، أو لاطّلاعه على تفاصيل القصة الواقعية التي أخِذ الفيلم عنها، نتابع بعدها ما نعرف من تطوّر العلاقة بين ميشيل وباراك إلى أن أصبحا أبرز زوجين في الولايات المتحدة الأمريكية، وربما في العالم بأسره تبعاً لذلك.
في الواقع، ليس ثمة في الاقتطافات السابقة ما يشير إلى حالة نموذجية لفتاة تتحدّث عن أخيها أو أبيها أو زوجها، وسبب ذلك بطبيعة الحال أن مذكرات "السيدة الأولى" في الولايات المتحدة الأمريكية لثمانية أعوام من الصعب أن تكون في عفوية مذكرات امرأة تتحدّث عن نفسها بلا بروتوكولات أو قيود من أي قبيل. إلى ذلك، تبدو ميشيل أوباما بطبيعتها عقلانية إلى حدّ بعيد، كما أن تدخّلات/اعتبارات التحرير– من الناحيتين الفنية والبروتوكولية/الاجتماعية - لجعل الكتاب أكثر قبولاً لجميع الفئات والأوساط، تلك التدخلات/الاعتبارات – إضافة إلى طبيعة ميشيل العقلانية ابتداءً - قلّلت على الأرجح من فرص الوقوع على لمحات بالغة العفوية في حديث المرأة عن الرجال من حولها كلٍّ بحسب طبيعة صلته بها؛ وتلك اللمحات العفوية لم تكن متوقّعة في الغالب على كل حال مع مذكرات ميشيل أوباما.
مثلاً، تشير ميشيل إلى أبيها بما لا يخلو من الحب والتقدير، لكنها لا تبلغ في الافتتان بوالدها قدراً يُذكر ممّا تبدّى في قول فتاة صغيرة عندما رأت رجلاً يشبه أباها الأعرج: "إنه يذكرني بأبي، فهو يشبهه جدّاً في الكثير من الأمور، لكن ينقصه أنه ليس أعرج مثله"، مشيرة إلى العرج بوصفه مزيّة فاتت شبيه أبيها "المسكين". واستشعار الأخت الصغيرة للإحساس بالمسؤولية الذي يكنّه تجاهها أخوها الكبير ولمحات إعجابها به واضحة أيضاً، وإنْ من خلال إعادة قراءة صورة تعود لسنوات الطفولة الباكرة؛ هذا ولم يحُل الفارق البسيط – أقلّ من عامين – بين الأخ وأخته دون إحساس ميشيل بكون كريغ سنداً لها كما بدا من قراءة لغة جسده الصغير. أمّا باراك، ففي الكتاب الكثير من الإشارات الغنية عنه بطبيعة الحال، ولكن على الأرجح بما يجعل صفته كرئيس حاضرة باستمرار وملقية بظلالها – بدرجة ما بحسب كلّ موقف – على حضوره في حياة ميشيل بوصفه زوجاً.
مهما يكن، وبصرف البصر عن اللمحات العابرة التي استرقنا النظر إليها من سيرة ميشيل أوباما الذاتية، ليس من المنطقي بحال النظر إلى المرأة بوصفها المرأة وحسب عندما يتعلّق الأمر باستجاباتها تجاه الرجال؛ فالمرأة الابنة غير المرأة الأخت غير المرأة الأم غير المرأة الزوجة؛ والمرأة تجاه المرأة بصفة عامة غير المرأة تجاه الرجل بصفة عامة أيضاً. غير أن التنميط يبدو مغرياً على كل صعيد لولعنا بالمحافظة على استجاباتنا داخل قوالب محدّدة نحتفظ بها ونستعيدها كلما واجهنا موقفاً بعينه، فذلك يريحنا من عناء التفكير كلّ مرّة فيما يمكن أن يكون مختلفاً فيستدعي بدوره تصرّفاً مختلفاً لم نألفه من قبل. وفي هذا، تبدو حوّاء تحديداً أكثر الكائنات إغراءً بحشر انفعالاتها وما تتطلّبه من استجابات في بضعة قوالب جاهزة للاستخدام، لكنها في الواقع أشد تعقيداً من ذلك، وإن تكن على الأرجح لا تنزعج كثيراً من تنميط الرجل لها بقدر ما تتركه سادراً في تنميطه وهانئاً بتبسيطه المخلّ الذي تعرف حواء تماماً كيف تستغلّه لصالحها.