حوار: محمد عبد الرحمن
ذهبت إلى أحمد فوزي صالح بأسئلة كثيرة وانتقادات أكثر طالت مسلسله الأول "بطن الحوت"، توقعت أن يحلل كل انتقاد ويرد عليه أو يرفضه من جذوره، لكنه على العكس قال إنه متفهِّم لكل ما يراه الناس ثغرات في عمله واسع الانتشار، مؤكدًا أن دوره كمخرج يتوقف عند انتهاء المونتاج، والعرض مِلك للجمهور، ومن حق الناس أن تعجب بعناصر وتنهال بالنقد على أخرى، بل هو أمر صحي، فقد ذهب زمن العمل الذي يجمع عليه الجميع.
فوزي صالح من المخرجين الذين قرروا منذ البداية أن يكون صاحب مسار خاص ولا يترك نفسه لأهواء السوق تجاريًا، لهذا تباعدت أعماله زمنيًا، لكنه لا يكف يومًا عن العمل والتخطيط، بل فاجأني أن بعض سيناريوهاته تتعطل ليس لأسباب إنتاجية وإنما لأنه شخصيًا ينقدها ويعيد كتابتها.
البداية كانت مع الفيلم الوثائقي "جلد حي" ثم الروائي الطويل "ورد مسموم" صاحب الرقم القياسي من جوائز المهرجانات، وصولا إلى "بطن الحوت". ومن يرى الفيلمين الآن بعدما شاهد قصة ضياء وهلال العمري يستوعب إلى أقصى مدى الفكر السينمائي الذي يحرك فوزي صالح، والذي جعله يستمر في تصوير المسلسل لأكثر من عام، ويتحرك في أكثر من 70 موقع تصوير جديد على العين المصرية وبالطبع العربية؛ كل ذلك يعتبره فوزي صالح عناصر قوة للعمل، ولولا بعض الظروف -غير الفنية- لتراجعت الانتقادات كثيرًا، ولتم تصوير كل المشاهد كما كُتبت وليس كما خرجت للجمهور.
بدأنا الحوار من أول جملة على التتر "مستوحى من أحداث حقيقية"، فهل قابل أحمد فوزي صالح عائلة تتاجر في المخدرات؟
أنا أصلا من بورسعيد، وعندما انتقلت للقاهرة لدخول معهد السينما اخترت الإقامة في مصر القديمة؛ أنتمي لهذا المكان ومنه كوَّنت مخزوني المعرفي والثقافي، ومن بين هذا المخزون قصة سمعتها عن شقيقين تصادما في كواليس عصابات المخدرات. جمَّعت كل جوانب القصة من مصادر مختلفة، لكنني لم أوفَّق في مقابلة أبطالها الحقيقيين، وظلت هاجسًا يطاردني حتى نجحت في تحويلها إلى حلقات "بطن الحوت" بعد حوالي 20 عامًا من دخولها ذاكرتي.
لماذا قدمت القصة كمسلسل وليس فيلمًا رغم أنك أقرب للسينما من دراما المنصات؟
كانت ستُقدّم كـ فيلم، لكنني اخترت قالب المسلسل لأن الأحداث التي أريد التعبير عنها لن يكفيها ساعتين على شاشة السينما، بالتالي اخترت الكتابة في شكل حلقات، ووصلنا إلى 15 حلقة، ربما لو أصبح فيلمًا لحصرنا الأحداث وتصاعدها في العلاقة الثنائية بين ضياء وهلال وضعفت باقي الخطوط، لكن هناك هاجسًا آخرًا أيضًا من مخزوني الخاص كنت أريد التعبير عنها، وهو متداخل للغاية مع خط تجارة المخدرات.
تقصد الجماعات الدينية؟!
بلا شك، ومن عاصر الشوارع الخلفية والقرى والأحياء الشعبية في مصر منذ الثمانينيات يدرك حجم تأثيرهم وانتشارهم. منذ البداية كنت ضد هؤلاء؛ ضد السلطوية بكل أنواعها خصوصا الدينية، لم أكن أفهم لماذا يحق لهؤلاء الأشخاص التحكيم بين أطراف أي نزاع حتى لو كان بين زوج وزوجته! رأيت كل ذلك وأنا مراهق ثم شاب وأردت أن أعبر عنهم وأوثقه دراميًا، أن أفسِّر كيف كانت تجارتهم تعمل وتنشأ فجأة من العدم، وكيف بنوا المساجد ليتحكموا في البيئة المحيطة من خلالها، وغير ذلك من أمور.
كل هذه الخطوط جديدة على المتفرج خصوصًا الذي لم يعاصر المرحلة بنفسه، لكن أسلوب السرد الذي استخدمته كان مربكًا للبعض.
بدأ فوزي صالح إجابته على هذا الانتقاد بسؤال "ليه البعض حتى الآن بيقول هسمع المسلسل؟". ويكمل: الناس تعوَّدت أن المسلسلات كلها من نوعية "سوب أوبرا" التي تُسمع بالأساس، تقوم على الحوار لا على الصورة، يمكن لربة المنزل أن تشغل المسلسل وهي مشغولة بأمور أخرى، لكن كمخرج قادم من عالم السينما الصورة هي وسيلتي الأساسية، بالتالي كل تفصيلة في العمل تحتاج إلى تركيز من الملتقي، فمشاهد "الآفان تيتر" ليست ملخصًا لحلقات سابقة كما يحدث في معظم المسلسلات لكنها تكشف جزءًا من ماضي كل شخصية، مثلا عندما نرى "ورد" في الماضي وقد قُتل أخوها أمامها في السيارة وأدركت أنها والأطفال كانوا مجرد تمويه في عملية نقل مخدرات، هذا يفسر ما تراه من البداية لماذا هي غاضبة من والدها وتريد أن يكون لها تجارتها المستقلة وتعتمد على نفسها وتبحث عن حب حقيقي لا حب مصلحة.
يكمل: قد تكون هناك أخطاء وقعت في استخدام هذا التكنيك، فأنا كمخرج أتعلم الجديد في كل عمل، لكن ما أنا على يقين منه أن مسلسلي ليس للمشاهدة السريعة التي يحمل كل مشهد فيها تفسيرًا سهلا للمتفرج.
تفضل التصوير في "لوكشينز" حقيقية وغير مستهلكة، هل يعني ذلك أنك لن تتصدى لعمل يتم تصويره في مكان واحد ولو كان السيناريو جيدًا؟
أدّعى أنني أريد أن أصبح فنانًا له بصمة، ومن ضمن ملامح هذه البصمة أن أقدم أعمالا تشبهني، بالتالي لو عُرض عليّ عمل بمغريات عديدة لكنه لا يشبهني لن أقدمه، هذا قراري وأتمنى أن أظل متمسكًا به، وتعدد أماكن التصوير لا يكون بهدف التباهي واستعراض العضلات، لكنني لا أستوعب أن يتم تأجير فيلا مثلا واستغلال كل أركانها في أكثر من لوكيشن مختلف على أساس أن الجمهور لن ينتبه، ربما يتقن البعض هذا الأسلوب، لكنني لا أحبه. وبما أنني من عشاق التجول في مصر طولا وعرضا أخزِّن العديد من مواقع التصوير وأستخدمها لاحقا، بل أحيانًا أرى موقع تصوير يعجبني فأطوِّع له المشهد، وكل هذا لا يكتمل إلا بفريق مختص أتوجه له بالشكر وهم: عمر حسين، سهيلة سليمان، عمر مطر، زياد طارق حسن.
وبالمناسبة المسلسل تم تصويره في 66 يومًا، أي حوالي 11 أسبوعًا، بما يعادل مدة تصوير فيلمين سينمائيين، لكن عدد الساعات يوازي مدة 3 أفلام وأكثر، أي أننا بذلنا مجهودًا مضاعفًا لكن في مدى زمني أقصر من المعتاد، وهو ما جعلني أتوجه بالشكر لكل الفرق التي عملت معي من كل التخصصات، لولاهم لما خرج العمل بهذا الشكل في النهاية.
بعض مسلسلات المنصات يتم طرحها دفعة واحدة، هل تظن أن هذا الأسلوب كان سيناسب متفرج "بطن الحوت" حتى لا ينقطع الاسترسال على مدى 7 أسابيع؟
لا أستطيع الحكم فهذا قرار المشاهد، لكن دعنا ننظر للأمر من كل الزوايا؛ فكرة طرح حلقتين أسبوعيًا وانتظار الجمهور للجديد حتى النهاية تعكس نجاح المسلسل في ربط المتفرج به. كذلك العمل يحتاج إلى مشاهدة بتركيز، بالتالي كان متاحًا أمام المتفرج أن يشاهد الحلقات أكثر من مرة في نفس الأسبوع، لكننا في كل الأحوال نجرب وبالتأكيد نتعلم.
لفت الانتباه منذ الحلقات الأولى "التناص" مع فيلم "أحلام هند وكاميليا" هل هذا مكتوب مسبقًا أم أضيف بعد الاتفاق مع حسن العدل؟
مكتوب منذ البداية، وهو تحية لأستاذي محمد خان، ومن يدقق في حوائط بعض الشقق في المسلسل سيجد لمسات من هذا النوع، وعندما جلست مع الفنان حسن العدل شرحت له الربط وذكَّرته بدوره العظيم في "أحلام هند وكاميليا"، وكنت مُصرًا على وجوده، وأدى الدور ببراعة معتادة. ربما لو اعتذر لأي سبب كنا سنغيِّر جملة "مسيرها تروق وتحلى" لكن التحية للفيلم ولخان ستظل موجودة.
رغم التصوير في أماكن حقيقية وشعبية للغاية لكن كان هناك اهتمام كبير بالألوان وزاويا التصوير وغيرها من التفاصيل.
البعض يتعامل مع الواقعية باعتبارها أن تصوِّر في المكان كما هو، وهو أمر يتعارض مع ما يجب أن تقوله الدراما، نحن في مسلسل يتحدث عن بشر، ليسوا أشرارًا بالفطرة، لكن الظروف التي خرجوا منها سبب ذلك. هذه الظروف مرتبطة ببيئة يجب أن تظهر بكل تفاصيلها في الكادر. هنا أكرر ما ذكرته قبل قليل أن الحوار وحده ليس البطل بل كل شيء ومنهم المكان، فكيف ستستوعب الأحداث إذا لم تركز في مكان وقوعها، لهذا اهتميت كثيرًا بالتفاصيل الفنية، مثلا الألوان، شخصية آية تموت في الحلقة الثالثة وتحرك أحداثًا كثيرة بعدها، يجب أن يرتبط بها المتلقي ويحبها سريعًا، لهذا تم ربطها باللون "البينك" في ملابس وغرفتها، اللون الأحمر ستجده موجودًا في أي مشهد رومانسي بين بكر ومنة، بين ضياء وورد، وهكذا.
أداء الممثلين من أبرز العناصر التي أجمع عليها المتابعون رغم اختلافهم حول عناصر أخرى، كيف تم اختيارهم؟
بجانب الأبطال الرئيسيين، كان قراري منذ البداية عدم الاستعانة بوجوه مستهلكة، أو باستسهال في التسكين، وهو ما تفهَّمه محمد شاهين الكاستينج دايركتور ومساعده حسن نوبي، وكان لهما دور كبير في كم المفاجأت التي شهدها العمل في هذا الاتجاه، مثلا لو أنني أسندت لعبد العزيز مخيون شخصية زعيم الجماعة الدينية، انطلاقا من أنه قدمها من قبل بامتياز، هذا استسهال، لكن الفنان أحمد صادق قدمه ببراعة، أما مخيون وهو أستاذ لأجيال فذهب في اتجاه آخر تمامًا، وأعتقد أنه سعيد بموسى القزم وأنا فخور بالتعاون معه. نفس الشيء يمكن أن ينطبق على حسام الحسيني، ويوسف عثمان، وحسن أبو الروس وغيرهم من الممثلين الذين قدموا أدوارا غير متوقعة.
وتامر حبيب؟
تامر حبيب أصلًا له جذور دمياطية، هذا أمر لا يعرفه الجمهور لكن أنا أعرفه وبالتالي تحمست لترشيحه. بعض المتابعين يفسرون الاختيارات بطريقة الإجابات النموذجية؛ يقولون مخرج يجامل زميله السيناريست فيسند له دورًا، لماذا أفعل ذلك ولو فعلته لمنحته أي دور سهل، لكن تاجر مخدرات دمياطي أمر ليس بالسهل إلا إذا كان الممثل نفسه قادرًا على الأداء، نفس الكلام ينطبق على فنانة ذات خبرة طويلة مثل بسمة، دورها مختلف تمامًا وقدمته بإجادة تامة.
البعض توقف عند أمينة خليل وأن وجودها كضيف شرف لم يكن مبررًا؟
وهل ستوافق أمينة خليل على دور غير مؤثر في الأحداث؟ ولماذا ستجاملني أو تجامل فريق العمل وقد أصبحت من أكثر الممثلات طلبا وانتشارًا؟ لو أننا سألنا أي من المتفرجين كيف يحكم هلال بزواج زوجته من شقيقه بسبب دخوله السجن، سيقول إنه فعلها من قبل وحكم على أمينة خليل بنفس القرار، هذا لو كان متفرجًا يتابع بدقة ويربط بين الأحداث، بالتالي كان لا بد من وجود ممثلة أيقونية مثل أمينة حتى تذكّره بالموقف، وليس بدعة أن يتم الاستعانة بنجم شهير في دور صغير كمساحة لكن ظلاله ممتدة على كل أحداث المسلسل، أما من ينتقد فهو يشاهد دون تركيز ثم يدّعي أنه لا يفهم سبب وجود أمينة.
نفس النسق يمكن تطبيقه على أحمد فهمي وشخصية "مروان"، فأيضًا الدور قصير وكان يمكن تقديمه من ممثل ليس نجمًا، لكن أصلا باقي أحداث المسلسل مبنية على قتل ضياء لمروان، فبالتالي يجب أن تظهر صورة مروان عالقة في الذهن، وهو أمر لا يحدث إلا إذا كان الممثل نجمًا، وهو ما يتكرر كذلك مع محمد علاء فهو قليل الظهور لكن كلما ظهر يؤدي لتغير في الأحداث.
فريق عمل كبير ومن كل الأجيال.. من تحب تكرار التعاون معه؟
بالتأكيد محمد فراج وأسماء أبو اليزيد، ويمكنني القول إن باسم سمرة وعصام عمر مواهب خارقة "مش طبيعيين وكأنهم مخاويين جن". وأتمنى العمل معهم في أعمال عديدة، وخارج المسلسل بالتأكيد هناك ممثلين كثر متميزين للغاية.
ماذا بعد "بطن الحوت"؟
لا أستطيع تأكيد عمل معين، هناك أكثر من مشروع، أستعد لإخراج مسلسل سعودي من تأليف الكاتب الكبير صالح زمانان، وسيتم تصويره أيضًا في مواقع تصوير مختلفة ولم يرها الجمهور هناك من قبل، وسأعود للتركيز مع مشروع فيلم "هاملت في عزبة الصفيح" بطولة أحمد داش.
والحرافيش؟
"الحرافيش" أتعامل مع المشروع كمؤلف فقط، حيث حصل المنتج هاني أسامة على حق تحويل الرواية لمسلسل تلفزيوني، لن أكون مخرجه، وأتمنى أن يجد طريقه للجمهور في أقرب فرصة، وهناك العديد من الممثلين القادرين على تقديم شخصية "عاشور الناجي" مثل كريم عبد العزيز ومحمد رمضان.
ربما تكون المخرج الوحيد الذي حرص على توجيه الشكر لكل فريق العمل في منشورات منفصلة على فيس بوك!
لولا الحب والدعم الذي حظيت به من كل فرد من أفراد الفريق لما خرج العمل بهذا الشكل وبعد كل هذه الصعوبات، وفي المقدمة المنتجان أمير وليليان شوقي سالم اللذان تحمسا للفكرة رغم صعوبتها، وكان من الممكن بنفس المجهود والوقت إنتاج أكثر من مسلسل. وأشكر كذلك مدير التصوير يوسف بارود، والمنتج الفني أحمد رمضان، ومؤلف الموسيقى المميزة خالد الجابري، والمخرج المساعد زياد طارق حسن، ومسجل الصوت بسام فرحات، وفريق "البرودكشن ديزاين".
كل هؤلاء شكرتهم.. لكنك أهديت مشهدًا محددًا لإيمان محمود حميدة؟
مشهد ضياء وورد في السيارة عندما خرجت ورد من السقف بعدما تعلم ضياء القيادة، البعض ظنّ أن هذا كوبري إمبابة لأنه معدني، لكنه كوبري في ضواحي الجيزة مررت عليه من قبل وقررت تصويره إذا أتيحت الفرصة وقد كان، أما استلهام لقطة خروج "ورد" من السيارة فقد حدث معي فعليا عندما اشتريت أول سيارة مفتوحة السقف وقدتها مع زوجتي السابقة وأم ابني إيمان حميدة، لهذا كتبت أنها من ألهمتني هذا المشهد عبر فيس بوك، فهذا أمر لا يكتب على الشاشة، وعندما أعجب الناس المشهد شعرت بسعادة حقيقية أن لحظاتي الخاصة لامست قلوب الناس. ورغم الانتقادات فإن تذكر الناس ووقفوهم عند لقطات بعينها يؤكد لي أن اختياراتي البصرية واللونية كانت في محلها، وهو أمر يرضيني تمامًا، ويجعلني أدخل المشروع المقبل وقد استفدت من كل كلمة قيلت عن "بطن الحوت".