لعل الاستشراق من أبرز ما ظلّ لأمد طويل يجسّد نظرية المؤامرة وتجلّياتها على الصعيد الفكري عربياً وإسلاميّاً وشرقياً كما لم يحدث مع أية قضية أخرى؛ ونظرية المؤامرة – كما عرضنا في مقام مستقل – حقيقة، والمتآمرون كُثر، لكن الدوران في فلك النظرية على اختلاف المقامات لن يحلّ القضية التي تدور حولها المؤامرة، هذا إن لم يزدها تعقيداً لصالح الطرف الأقوى المبادِر بالمؤامرة على الأرجح.
إلى ذلك، من الحكمة الانتباه إلى أن المؤامرة في كثير من الأحيان أقرب إلى الوهْم منها إلى الواقع؛ وهْمٌ يتعاظم في خيال الطرف المستهدَف (أو، للدقة، الطرف الذي يظنّ نفسه مستهدَفاً) إمّا من "لاشيء" وإمّا من "شيء" صغير يضخّمه المستهدَف نفسُه ويسعد بذلك التضخيم الطرفُ المتآمر/المشكوك في تآمره على كل حال.
مهما يكن من الأمر، وبالعودة إلى الاستشراق تحديداً، ظلّت كلمة "مستشرق" كما لو كانت مرادفاً للمتآمر الذي يصوّب مستهدِفاً الشرقَ بكل إسقاطاته العقائدية والفكرية والاجتماعية والحضارية بصفة عامة، وكان أولئك الذين يُشار إليهم بوصفهم مستشرقين "منصفين" قِلّة، وهم على الأرجح مَن سرّتنا قراءاتهم النقدية وهي تمجّد فضل الشرق على الحضارة الغربية، أو على الأقل تؤكّده؛ وهو سرور مستحق من قبلنا لا ريب، لكننا بصورة موازية أغفلنا في غمرة ذلك الاحتفاء بتأكيد فضلنا - من قِبل المستشرقين "المنصفين" - دروساً عميقة في غضون القراءات النقدية المعارضة بما لا يخلو من الهدوء والاتزان لنفر آخر من المستشرقين الذين يمكن وصفهم كذلك بالإنصاف؛ أمّا القراءات المتطرفة لمن لا يُخفون دوافعهم المعادية الصريحة من مفكري وكتّاب الاستشراق فالأرجح أنها كانت أحق بتجنّب الاستجابة لاستفزازاتها بتبنّي ردّات فعل تستشيط غضباً أو حتى تدافع باتّزان، فتجاوُز الاتّهام برمّته أفضل لا ريب من تبنّي التهمة بغرض الاجتهاد في نفيها وإثبات البراءة من ثمّ على هذا الصعيد أو ذاك، إذ من شأن تكرار نفي التهمة أن يفضي إلى ترسيخها بصورة أو بأخرى في معظم الأحيان.
بدا واضحاً أن ياسين عدنان قد قرأ كل تلك التعقيدات الي تلفّ القضية وهو يُعدّ برنامجه العميق "في الاستشراق"، بل الأرجح أن الرجل قد استهدف تلك التعقيدات ابتداءً وهو يعيد قراءة إرث الاستشراق مع ضيوفه من المفكرين المنتمين إلى طوائف متباينة تأثّرت مجالاتُها جميعاً بتلك القضية الشائكة تأثُّراً مباشراً وتشابهت استجابتها واختلفت في الوقت نفسه ولكن بما لا يخرج في الغالب عن الإطار العام الذي وَسَمَ ردَّ الفعل العربي تجاه الاستشراق عموماً.
التحدّي الأبرز الذي واجهه ياسين بقدْرٍ من البراعة جديرٍ بالتقدير هو تناول موضوع مستهلَك من مداخل جديدة، وهو تحدٍّ يتضاعف عندما يكون التناول عبر حوارات مع ضيوف من مشارب شتّى ليس من المفترض استدراجهم إلى تصريحات بعينها – على سبيل الضجيج الإعلامي - بقدر ما يُبتغَى ابتداعُ حوار عميق مع كلّ منهم، حوار يستهدف مكامن القصور في الاستجابات العربية والإسلامية والشرقية تجاه الاستشراق قبل أن يستهدف الاستشراقَ نفسه.
وإذا كان من الطبيعي أن يتباين الضيوف في حظوظهم من المعارف المتعلّقة بالجوانب الدقيقة للموضوع وقدراتهم وطرائقهم في التعبير عن أرائهم وانفعالاتهم، فإن عدنان يغوص مع كل ضيف في أعماق الفكرة ويحلّق في سماواتها بما عُهد عنه من هدوء واتّزان لا يبارحانه، وفي الوقت نفسه بإصرار لطيف على التركيز على المراد بالسؤال والمجادلة الراقية التي لا تُفقد للودّ قضية مع قضية هي أصلاً مشحونة بالخلاف الحادّ وقابلة للانفجار مع أية محاولة لنبشها خارج السياقات المتواضع عليها سلفاً.
يقرأ ياسين ضيوفه بعمق فيعرف كيف يرقى إلى آفاق ضيف شغوف بالتحليق بما هو جديد ومفيد، تماماً كما يعرف كيف يُقيل عثرات آخر يصرّ على أن يعيد إنتاج وتصدير الاستجابات المنمّطة إزاء الاستشراق وإرثه الذي يبدو أنه لا يزال ثقيلاً على العقول والصدور في محيطنا وحوالينا.
"في الاستشراق" مغامرة جريئة لقراءة استجاباتنا تجاه الاستشراق ومحاولة لإعادة صياغة تلك الاستجابات أكثر من كونه مجرد محاكمة متجددة للاستشراق نفسه.
عمرو منير دهب يكتب: المرأة بوصفها منتمية إلى أقلّيّة.. الفصل السادس من كتاب "جينات أنثويّة"
عمرو منير دهب يكتب: لا أحد أكبر من الوهم.. الفصل الأخير من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"