كنت أحبّ أن أقول إن معرفتي بالرجل تقتصر على علاقة افتراضية توطّدت مؤخراً على الفيسبوك، ولكن الواقع أنّ علاقتي بالمبدع الكبير على المستوى الشخصي لا تتعدّى صداقة عابرة قياساً بما كنت أودّه من شدّة التواصل وزخم التعليقات اللطيفة على المنصة الاجتماعية عبر الأثير؛ ولكن العلاقة - على كل حال - من ناحية تلقّي الإبداع والاحتفاء به علاقة بالغة العمق من جانبي لا ريب.
بدأتُ التعرّف بحَجّاج أدول مبدعاً، بل - للدقة – دهمني أدّولُ مبدعاً بداياتِ التسعينيات الماضية وأنا أحاول الاقتراب بحذر من بعض أجناس الأدب الأخرى بموازاة الشعر العربي الغنائي الكلاسيكي الذي كنت لا أرى الإبداع الأدبي مستساغاً إلّا من خلاله. ولأن ما بيني وبين الرواية كان ولا يزال قابلاً لأنه يوصف بكونه "قلّة استلطاف" بالغة التعقيد رجوعاً إلى نزعات شخصية تجاه جنس الرواية الأدبي ومنطلقات نقدية صرفة إزاء زمانها المزعوم هذا طرحتُها في أكثر من كتاب من قبيل "تبّاً للرواية" و"حرب الأجناس الأدبية" والإلحاد الأدبي"، فإن ما أخذني في إبداع حجاج أدول كان القصة القصيرة وليس الرواية بطبيعة الحال (حالي شخصياً مع الرواية).
قرأتُ أولى قصصه القصيرة عبر مجلة "إبداع" فاستولت عليّ حيناً من الزمان كونها امتزاجاً فريداً لإبداع أدبي منقطع المثيل واستلهامٍ لتراث أصيل يشدّني إليه انتسابٌ عرقيّ مباشر. اللافت أن التراث النوبي المستلهم في تلك القصة – أجواءً وكلماتٍ – كان بالغ السلاسة، ولم يكن من شأن ذلك التراث المستلهم – وأرجو أن يجوز هذا الزعم النقدي - أن يربك قارئاً بعيد الصلة بموضع التراث، بل يجذبه على الأرجح بمزيد من شغف الاستكشاف ولذة المتابعة الحميمة.
لم أكد أتحرّر من أسر الانجذاب إلى سحر القصة الأولى حتى وجدتني أجتهد في البحث عن كل إبداع ممكن لحجّاج أدول عبر "إبداع"، المجلة المتألقة ثقافياً ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والمتاحة نُسَخُها في المكتبة الأثيرة لديّ على رصيف زاوية شارعَي "جيهان" و"البحر" في المنصورة الحبيبة.
عثرت على كنز فريد كما توقّعت، إذ لم تكن القصص التالية – بحسب تاريخ عثوري عليها – أقلّ روعة من الأولى التي عرّفتني بصاحبها الكاتب الأصيل إبداعاً؛ ومن أبرز ما لفتني في أصالة ذلك الإبداع ما ذكرته من أنّ الإحالات الغنية إلى العمق النوبي الثقافي ظلت تنسرب في إبداع الرجل بسلاسة ولذة منقطعتَيْ المثيل، فلم يكن التراث – والحال كتلك – متّكأً يلجأ إليه أدول لتستند إليه أعمال أدبية بحاجة إلى خلفية فلكلورية تشفع لجمال منقوص أو قضية أقلّية ثقافية تعوّض قيمةً فكرية مفتقدة.
ولَشدّ ما أدهشني أنّ أدول قد بدأ النشر وهو في الأربعينيات من العمر، ولعله قال بأنه بدأ الكتابة الأدبية لا النشر وحده في ذلك العمر؛ ولكنها دهشة عابرة على كل حال، فالمهم هو كيف وليس متى وُلِد ذلك الإبداع، والأهم كيف تواصل الإبداع عقوداً مديدة بحيوية وألق متعاظمين.
أصالة الإبداع مسألة تتلقّفها حاسّة القارئ المتمرّس مع الوهلة الأولى لتلقّي العمل الأدبي، وإن يكن تشريح مكامن تلك الأصالة مما يستلزم جهداً دقيقاً من الناقد الحصيف. في المقابل، يستلزم الوقوف على أصالة الإنسان – نقاء معادن طباعه وأخلاقه – دهراً من المخالطة اللصيقة والتجارب العميقة؛ ولكن ذلك لا يمنع أنّ جوهر معادن الطباع والأخلاق تلك - وليس بريقها فحسب – يمكن أن يُلتقط بدوره عبر علاقة افتراضية عابرة كتلك التي تربطني بحجاج أدول؛ بل إنني أزعم إمكانية التحقّق أحياناً من أصالة معادن بعض النفوس الثمينة - لأيّ من الشخصيات العامة في أي صعيد - من خلال المتابعات المتأنية عبر مختلف الوسائط لطرائق التعبير عن المواقف المتباينة تجاه تقلّبات الزمان. بذلك في الاعتبار، لا أظن أن أصالة حجاج الإنسان تخفى على متابعيه، سواء من عشاق أدبه أو المنحازين إلى مواقفه المبدئية.
نال أدول ما نال من حظوة وحظ المتابعة والظهور الإعلامي والجماهيري، وتقديري أنه كان يستحق أكثر وأعمق مما نال؛ ولكن الذيوع – كمّاً ونوعاً – حظوظ كما عرضتُ بتفصيل في "لوغاريتمات الشهرة"؛ وأجمل استجابات الأديب الجليل إزاء ما فاته مما كان جديراً به من التنويه الأدبي الرفيع أنه يقف راسخاً لا يشتكي ولا يكتئب، بل يواجه التجاوز بمزيد من الإبداع الذي يثلج صدور عشاقه ومزيد من التفاؤل الذي يستفز متجاهليه.