لم يكن متوقعاً أنّ الفتي الذي يجسّد دور وكيل المحامي في مسرحية "أنا وهو وهي" أوائل الستينيات الماضية أمام فؤاد المهندس سيصعد نجمُه ويعتلي عرش الكوميديا المصرية والعربية؛ وهذه ليست غريبة على كل حال، فالتنبّؤ بمن سيصبح نجماً تحدٍّ حافل بالمفاجآت إنْ لم يكن قائماً أساساً على مفاجآت لا تنقطع من عيار ثقيل.
اللافت في مفاجأة اعتلاء عادل إمام عرشَ الكوميديا أن ذلك الاعتلاء استمرّ لأطول أمَدٍ منذ بدايات فنون الكوميديا العربية مسرحياً وسينمائياً: حوالي أربعة عقود متواصلة؛ والأشد جذباً للانتباه أن الرجل امتدّ بسلطانه الفني فتجاوز الكوميديا إلى غيرها من ألوان التمثيل سينمائياً، أمّا مسرحياً فقد حكمت طبيعة "المسرح التجاري" بأن يظل سلطان "الزعيم" قيدَ المسرح الكوميدي فحسب، وهذه ليست هيّنة بحال.
وإذا كانت الألقابُ تُطلَق تمجيداً للأبطال من قِبل مُريديهم بقدرٍ من العفوية دون تدقيق، فإن "الزعيم" كان منطبقاً على صاحبه بالنظر إلى استيلائه على العرش الفني السينمائي والمسرحي مصرياً وعربياً على الصعيد الجماهيري، وبتجاوز وجهات النظر النقدية التي اختلفت اختلافاً عريضاً وطويلاً في تقييم النجم الظاهرة.
تبدّت موهبة عادل إمام مع بدايات إطلالاته الجماهيرية في "أنا وهو وهي" وما تلاها مباشرة، ثم تأكّدت بعدها في الأدوار التي أسنِدتْ إليه حتى تلك التي كانت ذات قيمة فنية متواضعة أو متلاشية؛ وعندما شرع الرجل في الاستحواذ على شبابيك التذاكر فإن ذلك تحقّق بتأثير موهبة قادرة على أن تقنع الجماهير بأدائها وحضورها الخالصين بعيداً عن أية عوامل مؤثرة أخرى أرجو أن يجوز وصفها بـ"الخارجية"، بل في ظل غياب/انعدام تلك العوامل "الخارجية" بصفة واضحة: الإطلالة الوسيمة، البنية الجسدية الأخاذة، العلاقات الوطيدة المسبقة مع أيٍّ من الأوساط النافذة والمؤثرة في المجال الفني أو غيره من المجالات ذات الصلة من قريب أو بعيد، ونحو ذلك.
ولكن النجومية لا تتحقّق بتأثير الموهبة الفنية وحدها، وذلك بما يسوّغ القول بأن ثمة موهبة موازية اسمها "موهبة النجومية" - مستقلة عن الموهبة الفنية الخالصة – تتطلّب بطبيعة الحال تضافر فرص وعوامل عديدة للإفادة منها؛ وقد امتلك عادل إمام "موهبة النجومية" وعرف كيف يفيد من العوامل اللازمة التي أتيحت حوله والفرص المختلفة التي سنحت له لا ليحقّق النجومية فحسب وإنما ليصعد بها إلى ذروة منقطعة المثيل في مجاله.
أنْ يحقّق عادل إمام "كلّ شيء" في مجال التمثيل إنجاز يُحسب له على الصعيد الشخصي لا ريب، لكنه مؤكداً ليس محمدة فنية عل سبيل الإطلاق؛ ومن المهم الانتباه إلى أنه ليس في وسع أيٍّ من الناس تحقيق "كل شيء" حرفيّاً في أي مجال، إلّا ما كان من باب المبالغة في التعبير احتفاءً بإنجاز متعاظم على نحو مميّز.
ما هو الجانب غير الإيجابي إذن في تحقيق عادل إمام "كلَّ شيء" في التمثيل خلال الفترة التي تربّع فيها على عرش فنون التمثيل مصرياً وعربياً من حيث الاكتساح الجماهيري؟ من الوجهة الفنية البحتة، كانت نجومية إمام مستحقة تماماً على صعيد الكوميديا سينمائياً ومسرحياً بأداء فريد ومنضبط – إلى حدّ بعيد – في كلا الإطارين (السينمائي والمسرحي) بما يناسب كل إطار، لكن نشوة تحطيم الأرقام القياسية في عدد سنوات العرض المتواصل قد حرمته من تنوّع الإنتاج بما كان من شأنه أن يجعل تجربته المسرحية أوسع ثراءً وأشدّ عمقاً، خاصة مع طبيعة "المسرح التجاري" الهشّة فنيّاً، فليس من الحكمة أن تظل فكرةٌ شديدة الاستهلاك في السينما المصرية – كفكرة المُحلّل على سبيل المثال – محوراً لأبرز العروض المسرحية العربية لأكثر من سبعة أعوام.
برغم ذلك، فإن الأثر غير الإيجابي لـتحقيق عادل إمام "كل شيء" (كناية عن الاستحواذ) على المسرح كان هيّناً قياساً بالسينما، فقد شهد المسرح التجاري منافسات متباينة من مجايلي عادل إمام أتاحت تنوّعاً بدرجة ما على خشباته، وكانت تجارب محمد صبحي تحديداً الأجدر بالوقوف عندها كونها جسّدت الدلالة العملية على إمكانية تحقيق الرواج التجاري بحيلة "ثلاث ساعات من الضحك المتواصل" دون التضحية بالقيمة الفنّية الرفيعة المتعلقة بالمحتوى الذي يضحك المشاهدون بشأنه. الأثر السلبي الأبرز لاستحواذ عادل إمام كان ذلك المتعلق بشبابيك السينما (التجارية أيضاً، حتى إذا كان المصطلح قاصراً على المسرح)، فرغم أن الساحة السينمائية لم تخلُ أيضاً من منافسين، بل كانت المنافسة ثمّ أعمق بوضوح من الناحية الفنية قياساً بالمسرح، فإنه لم يكن مستساغاً بحال أن يكون إمام هو فتى الشاشة المصرية/العربية الأول في أفلام القوة/الحركة Action والأفلام التي تتضمن أبعاداً رومانسية وتلك التي تغوص في القضايا الاجتماعية/الدينية/السياسية الشائكة.
حضور الرجل وموهبته كما أشرنا طاغيان على نطاق الكوميديا بما يسوّغ استحواذه على سُوحها وسماواتها مسرحياً وسينمائياً، ولكن بنيته الجسدية وإطلالته وكاريزماه من الصعب أن تشكّل جوازَ مرور/صعود سينمائي إلى نجومية الرجل الخارق أو الفتى الأكثر وسامة، وذلك إذا تجاوزنا مقتضيات النجومية - "الفضفاضة" من حيث المعايير الجسدية - للأفلام التي يتشابك فيها ما هو اجتماعي وسياسي وديني من المسائل والأفكار المتناولة؛ ومن الجدير بالانتباه أن أفلام حقبة عادل إمام ورفاقه كانت مما تتداخل فيه كل تلك القضايا في "توليفة" تجمع الكوميديا والرومانسية والحركة/القوة في آن معاً.
مهما يكن، فإن ظاهرة استحواذ عادل إمام على نجومية مختلف فنون التمثيل مسرحياً وسينمائياً قد تحققت لأمد متصل من الزمان على نحو منقطع المثيل؛ فإذا كان ثمة ما هو غير منطقي في تلك "الظاهرة" فإن الجدير بالمساءلة هو المحيط الذي أتاح لها أن تبرز وتستمر على ذلك النحو الاستثنائي، أمّا صاحب الظاهرة نفسه فليس من المنطق محاكمته بتهمة أنه استطاع إقناع مئات الملايين من الجماهير بجدارته بلقب فتى السينما والمسرح الأول في الكوميديا والرومانسية والقوة وتشريح القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية لنحو أربعة عقود متواصلة من عمر الزمان المصري والعربي.
نرشح لك: