كم مبدعاً لم يأخذ حقّه من التنويه والصيت بما يوازي قيمة إبداعه؟ الإجابة بالغة الصعوبة، فإحصاء أسماء المبدعين المغموطين مهمة أشبه بالمستحيلة بالنظر إلى الخلاف الذي ينشأ في ظلال العدد الهائل للأسماء التي يمكن أن تضمّها قائمة مقترحة من ذلك القبيل؛ فضلاً عن التعقيد الكامن في بيان أشكال الغَمْط المتداخلة وتشريح دواعيه المتباينة، وبتجاوز الطبيعة البشرية التي تحدو كلَّ مبدع تقريباً إلى أن يرى إنتاجه جديراً باحتفاء أكبر ممّا ناله حتى إذا كان ما ناله عظيماً في أنظار الآخرين.
يحي حقي اسم من الصعب أن يمرّ في أيّ مقام دون أن تتداعى إلى الخاطر مشاعر هي مزيج من الودّ والتقدير العظيمين لصاحب الاسم بوصفه مبدعاً وإنساناً؛ ورغم أن قيمة الإبداع ليست من المفترض أن تكون ذات صلة مباشرة بطباع المبدع وسيرته الشخصية، فالواقع أن شخصية المبدع تضفي أثرها الدامغ على طريقة استقبال إبداعه، سواءٌ من جانب الجماهير بصفة عامة أو من قِبل النخبة من المثقفين والنقّاد المعنيّين بأعمال المبدع، وهذا حديث ذو شجون عرضنا له في أكثر من كتاب من قبيل "تواضعوا معشر الكتاب" و"تبّاً للرواية" و"حرب الأجناس الأدبية" و"الإلحاد الأدبي" و"لوغاريتمات الشهرة"، ومؤخراً "نحن الممثلين: كل شيء إلا الحقيقة".
ظلّت طبيعة حقي الوديعة تُفيء عليه قبولاً يمكن وصفه بالاستثنائي في قلوب متابعي إبداعه، وقد امتدّ هذا القبول فشمل الطريقة التي يُقبِل بها أولئك المتابعون على إبداع الرجل من الوجهة الفنية الخالصة، ذلك الإبداع الذي بدا بدوره فريداً في مقاصده وطرائق عرضه ونزوله – من ثم – برداً وسلاماً على وجدان المتلقّين، مع الانتباه إلى أن صاحب الإبداع يحرص بالضرورة على ألّا تخلو أعماله على اختلاف ميادينها الأدبية والفنية والفكرية من مناوشة الثوابت الإبداعية بثقة لا يبارحها اللطف.
حكى أحد الأدباء (أظنه محمد البساطي) عن تجربة له في بواكير حياته الأدبية مع يحيى حقي، فقد كان الأديب الصاعد حينها (البساطي) بصدد استلام جائزة أدبية للناشئين، وكان عليه أن يرافق يحيى حقي وأديب آخر رفيع المكانة حينها في سيارة (على ما أذكر من تفاصيل الحكاية) إلى موقع الاحتفال. حكى البساطي كيف أن الأديب الآخر كان يتكلّم معه في شيء من التعالي الأدبي، في حين عمد يحيى حقى إلى محادثته بما عُهد عن سيرته من اللطف والتواضع الأصيل، هذا بموازاة تشجيعه الأديبَ الصاعد والإشادة بإنجازه على صغر حجمه حينها.
تواضُع يحي حقي تواضعٌ أصيل تزينه ثقة راسخة ودماثة خلق آسرة. بذلك، لم يكن عسيراً على أيٍّ ممن يقتربون من الرجل شخصياً أو عبر إبداعه أن يدركوا أن ذلك التواضع ليس قشرة تخفي تحتها نقصاً من أي قبيل، أو – في المقابل – غروراً يمكن أن تفضحه لحظة نزق عابرة. كان الرجل يكتفي - كما يشار إلى ذلك عادة في مقام الاحتفاء به – بنشر أعماله الفخمة في مجلات متواضعة الحظ من الذيوع، ثقةً منه في أن الأعمال الرصينة تنوّه بنفسها عبر أية نافذة تطلّ منها ولو كانت ضيّقة ونائية عن الأضواء الباهرة.
يُشار إلى "قنديل أم هاشم" على أنها أبرز أعماله، ولعلي سمعت أن الرجل كان لا يُحب أن يُعرف على أنه صاحب "قنديل أم هاشم"، وتقديري أنه كان محقّاً في ذلك. ربما كان حقي لا يحب أن يكون صيته أسيراً لعمل أدبي واحد، ولكن الأجدر عندي بالانتباه في هذا السياق أن قدره الأدبي أرفع من "قنديل أم هاشم"، فالرواية على أهميتها ليست أرفع ما ميّز أدب يحيى حقي وإنْ كانت هي التي جذبت إليه الأنظار ومنحته من ثم شهرة كانت يستحق أضعافها على كل حال.
برزت خصوصية حقي الأدبية في القصة القصيرة وليس الرواية، وإن تكن خصوصيته الأبرز لديّ تكمن في مقالاته النقدية الي استوعبت نظراته الثاقبة شديدة التميّز في الحياة لا الأدب والفن فحسب، أو – للدقة – نظراته في الحياة عبر بوابة الأدب والفن.
زملاؤه من الأدباء ومريدوه من القرّاء يعرفون جيّداً أن خصوصيته جديرة بأنه تمنحه صيتاً أرفع مما ناله؛ ولكن الشهرة حظ لا يستند إلى القيمة المستحقة رجوعاً إلى الجدارة في مجال الإبداع فحسب على نحو ما أشرنا مراراً وفصّلنا في "لوغاريتمات الشهرة" تحديداً. برغم ذلك، ولأن الرجل لم يكن معنيّاً بالجلبة على أي صعيد، فإنني أخال يحيى حقي لو طُرح عليه السؤال: "ألست منزعجاً لأنك لم تأخذ حقّك من الإشادة والتنويه؟"، فإنه سيجيب: "لا لست منزعجاً، فقد أخذت حقي في وجدان متذوّقي الأدب الفريد مهما يكن عددهم".