"الزمن المفقود".. عن فلسفة حاوٍ أحمق

تقدم رواية 'الزمن المفقود" للكاتب وانغ شياوبو، الصادرة عن بيت الحكمة للصناعات الثقافية، بترجمة د. أحمد السعيد، رؤية لها أهمية خاصة، متوازية مع اتجاه الكاتب بحكي -أو تفريغ- الذكريات الخاصة بأبطاله، فيتشاركوا معا شعور الخفة في نهاية الحكاية. ومن قبله تضع أولا طريقة تناولها المناسبة، التي تعتمد على استدعاء الذاكرة، بتصميم دولاب كبير يشبه ما بحوزة "الحاوي"، قوامه مبدأه عن الزمن المفقود كما قال عنه: ❞أمور نتخطاها سريعًا، وأمور تعلق بذاكرتنا لفترات طويلة ولا تنزاح عنا❝ فضلا عن تأثره بالكاتب الفرنسي "مارسيل بروست" ومحاولاته في البحث عن هذا الزمن التي تجعله كما يصف الراوي بكونه شبحا جالسا بأعماق نهر، تمر الأشياء من كيانه. وباعتماده على بعض الأحداث الهامة، يخرج إلينا -كما يخرج الحاوي ألاعيبه ليدهش الناس- أحداثا ورؤى كثيرة ومتشعبة، ومشاعر مختلطة، قد تصيب القارئ بالتعب، لكنها تدهشه بالنهاية وقد تجمعت الخيوط.

تعرف تلك الرؤية عن نفسها بانتهاء حكاية ما أثرت في البطل وجعلته يذكرها ضمن سلسلة متشابكة مع نظرائها "كالسيد خه وانتحاره، هيامه بفتلة، السيد لي والثورة الثقافية". تزداد تلك الرؤية قوة بموائمة هذه الحكايات بمزيج يربط ما ضمنه المترجم من حياة "وانغ شياوبو " القصيرة، مع العنصر المشترك بتلك الحكايات وهي علاقة الإنسان بواقعه الثقيل ودور الموت -بمعنى آخر اللحظات الأخيرة- في التخفف منه، ومن ثم الانتشاء والسعادة برؤية جديدة أخيرة للعالم. والتي انتقل من إثارته لها بداية من حيرته حول الصفة التشريحية "السيد خه" بعد انتحاره، مرورا لحماسته واشتهائه للمشاهد الدموية، وافتتانه بالشابة فتلة العداءة نحو المخاطرة، وصولا لذكره العابر عنها-أو بالأدق احتقارها- في تشوق "السيد ليو" الأخير للبطة الميتة "دلل عليها صورة جمعت بين البطة والبطيخة كرمز يختصر مسيرتهما". فنتفهم أن تلك الذكريات المنسابة من دولاب زمنه، اتباعا لهذه الثنائية. يتردى فيها "وانغ أر" من حاضره المر والصادم ممزقا عقله المتعب وذاكرته العليلة لينثره بين محطات حياته الفارقة. ومنه يشعر بالزهو والسعادة، لأن ذاك التتابع يظهر الحلقة المفقودة أو المتضررة في حياته "الجنس" فيعتمد عليها، في بث نظرياته وتعليقاته الخاصة فضلا عن إسقاطاته، فيرضي على الأقل صراع ذاته بين الشجاعة والزهد "متمثلة في السيد لي والسيد خه" والجبن والشره "متمثلة في فتلة والسيد ليو"، متلذذا بحمقه -كما ذكر حول معنى اسمه بالمقدمة- وتخبطه البريء الذي لا يعني البلاهة بل التهور، صابغا بها حياته لمن يعبر ويقرأها.

❞ خلال تلك الفترة أيضًا أُطلق سراح الكثير من المجانين، وبدأ الناس يحترمونهم لعمق الهراء الذي يقولونه. ❝

ولعل في نظرية السقوط التي يعتمدها "وانغ أر" في تدويناته، تكشف لنا جانبا فريدا من حياته. فنحن وإن انبهرنا بشجاعته الظاهرة بكلامه وأعجبنا احتقاره لشخصية "السيد ليو" ونعته بالجبان. فإننا لا نراه يضع لنفسه شجاعة المبادرة إلا بفلتات كالومضة نتيجة فيض مشاعر "كعشقه لفتلة مثلا الذي دفعه لذكر بعض من راحوا ضحية أفكارهم كجان دارك". ومنه يعتمد على نظرة مراوغة في كتابة مذكراته بتغيير أسماء الشخصيات والأماكن. ومن ذلك بتتابع القصص والنظر لتعقدها ببعضها، يمكن أن نستنتج لعبة كبرى يقودها الكاتب، يساعدها المدخل المهجور بمجتمعه، لمحو الواقع المشرق المترائي للحالمين عن بعد، والمتشقق الملطخ بالسواد إذا تأملوه عن قرب. وتصميم نظرة تهكمية ترى الحياة مقلوبة: رأسها الشهوة وقاعدتها بقايا عقل مهشم كالبطيخة. ومن ثم يعممها على مجتمعه، بداية من شخصيات أصدقائه المساعدة لكتابة سيرته مسقطا فيه بعض النظريات والمقارنات. من التيارات المختلفة إلى معنى الحقيقة والخرافة في علاقة السيد لي بالزميل الهندي ولعناته في أي مكروه أصابه إذا وهنت الأسباب المنطقية في التفسير. ولأن تلك الرؤية تتسم بالحرية والانفتاح على لقطات وحركات عدة، كالشخص المنتحر من أعلى، فلا يقبلها البشر ولا يصدقها تبعا لقول وانغ أر "البشر لا يستطيعون التفكير في أكثر من أمر" يعدونها دروبا من الحماقة، يجوز التندر والتسلية عليها في أحوال كثيرة.

"عاش على رقعة الشطرنج، ومات وهو رافض للخسارة"

ولأن السخرية في هذه الحقبة المذكورة مؤلمة بل وأداة مميتة كما رأينا من مشاهد تعذيب السيد فينغ لوانغ أر والسيد خه، والسيد ليو المتسامح رغم تسابق الجمع على ضربه متشبها بالمسيح، أو وقودا ربما يتضخم ليصيب ذويه بالأحلام البلهاء فيودي بهم كما حدث لأصدقاء وانغ، فإننا نجد بين الشخصيات قاسما مشتركا في التعايش، وهو الاحتماء بمبادئهم الأولى، حتى وإن كانت قطع من الخراء. وتثبيت أقدامهم في الحياة-كما نرى الرمز في إشارة وانغ أر أنه يسكن في بيت أبيه- والرضا بقواعدها والاستسلام لذكرى الافتتان بها بالقدر الذي يمنعهم من الخسارة الكبرى رغم هزائمهم المتتالية، حتى يستطيعون في النهاية أن يصلوا إلى مرحلة الإدراك والوعي بجريان الزمن وسيلانه، فيتطهرون من ذلك الهراء المتشبعين به، أو يتجاوزونه بقلوبهم المفطورة على ذكراهم. يحرصون -عملا بمبدأ جيفارا "كيف أولي وجهي عن شقاء الناس" -على إعطاء كل لقطة منها قطعة من كيانهم، لئلا يقعوا في فخاخ التظاهر والادعاء، فتنقطع الطرق بينهم وبين جدوى حياتهم، ويذوب معه أملهم في الخلود.

بالنهاية، فإنني أرى عملا مميزا، لا أرى ما يزعجني فيه إلا فرط التشابك وتداخل القصص، كلما اقتربنا من النهاية "بالتحديد في علاقة وانغ أر بشوان لينغ والسيد ليو"، لكن الكاتب في خاتمة العمل أدار الدفة بحرفية شديدة أكدت مقاصده ورؤاه. وأيضا لا بد أن أشيد بالترجمة الجيدة والتي ساهمت في حيوية الكتابة بسلاستها وما ضمنه المترجم من هوامش مساعدة، بالإضافة إلى تركيزه على العلاقة المترابطة بين عنوان الترجمة الصينية لكتاب "البحث عن الزمن المفقود" لبروست "سنوات منسابة كالماء " وعنوان الرواية والتي تعطي منطقية لوصف وانغ أر عن سنواته كما سبق ذكره.

نرشح لك: الناشرون والإنفلونسرز.. انحياز للمبيعات أم للمحتوى؟! (تقرير)