أكتب الآن هذه السطور وقد استيقظت لتوي من النوم بعد أن حدقت في سقف غرفتي لبضع دقائق صامتة… والتي امتدّت لتصل إلى أربعين دقيقة كاملة من الصمت الصاخب بالأصوات والضجيج في عقلي. ربما أدركت كيف مستني تلك الحلقات العشر كما لم تمس غيري أو ربما هناك من يجد مساحته المشتركة معي، ولهذا أكتب. أعلم أن الحالة ذاتها قد أثارت إعجاب الكثيرون، موسيقى هاني شنودة الساحرة، النوستالجيا والأغنيات التي حملت أجيال ركض بها الزمان، دون أن تلتقط أنفاسها، إلى مكان قديم ينتمي إلى زمن بعيدٍ قريب، الحوار اللذيذ، الأداء المتميز للممثلين حتى وإن وجد البعض ثغرات قانونية في الكتابة ولكنها اكتملت بصدق الحالة، وشخصية نديم التي عايشناها مع الموهوب طه الدسوقي، إلا أن ذلك العمل مسني بشكل آخر. ربما لم أملك من الشجاعة أن أعبر عنه فيما مضى. فهو الأمر الشاق بالنسبة لي.. للغاية.
لقد صنفت الدراما حالة البطل نديم بأنه مصاب بدرجة من التوحد رغم ذكائه الشديد لذلك وصفته بأنه ليس عادي … "حالة خاصة". ربما وجد المؤلف مبررا دراميا لتلك الشخصية وتمكن من رسمها بحرفية بالغة وصور لنا ببراعة كيف واجهت وتعاملت شخصية نديم مع صعوبات الحياة، ولكني لست واثقة من قدرة الدراما على صنع عمل مشابه لسيدات وفتيات مثلي- ربما كثيرات- يعانين كذلك في الحياة دون مبرر نفسي مثل التوحد أو غيره… فتيات ربما يصفهم البعض "بحسن النوايا" المبالغة وفي أحيان كثيرة بالعبط.
ربما لا أشعر بالراحة للكشف عن جوانب من حياتي وشخصيتي، ولكن هذا تحديدا ما جعلني وقعت في غرام تلك الحلقات التي وبعد أن انتهيت منها أعيدها واحتفظ بلقطات مختلفة منها لنديم على هاتفي. فهو يشبهني في جوانب عدة، فأنا مثله أعتدت أن أصدق كل ما يقوله الناس دون شك وأتعامل معه على أنه حقيقة مطلقة، وتشبه علاقته بأمه علاقتي بأبي، فحين ذكرت لأبي أنني غير سعيدة ولا أعيش الحياة التي أستحقها أشار إلى أن "المرأة الذكية تصنع حياتها وتحافظ على بيتها وتجعله بيتا سعيدا وأنت ذكية" تلقيت هذا "الأمر" وحملته على عاتقي وعشت سنوات مثل نديم أنفذ هذا "الأوردر" بينما أفكر في السبل التي تمكنني من صناعة حياتي الناجحة وإسعاد بيتي … ربما بالغت في كل شيء حتى تم استغلالي بقسوة … نجحت في أشياء ولازلت أحاول في أخرى … وجدتني مثله أحمل متناقضات تلك الفتاة التي تجمع بين الذكاء الحاد والسذاجة المفرطة والصدق البالغ وحاليا الخوف المبالغ فيه… وأنا مثل نديم لا أكذب ولكني قد أخفي الأسرار … عشت طويلا لا أعرف كيف هي الطريقة المناسبة للتعامل مع البشر لأنهم يكذبون كذبات مجانية ويخدعون وقلوبهم قاسية وأنا سهلة التأثر والبكاء … فنعتوني بالمرهفة والمرهقة أحيانا والحساسة أحيان أخرى والعبيطة والساذجة أحيان ولكنهم حين يصطدمون بذكائي وفهمي للأمور سرعان ما أتحول للخبيثة والسوسة والداهية … ومثلي كثيرات لا تتحدث عنهن الدراما.
مثل نديم تعرضت للتنمر في سنوات طفولتي الأولى بسبب مشكلة ولدت بها في عيني. عيني التي يتغزل بها الرجال الآن، كانت في يوم سبب من أسباب انطوائي وحساسيتي وجلوسي بمفردي كثيرا في التختة… ولكن كما قال نديم أن التنمر يجعل منا أناس أقوى ويدفعنا إلى أن نتطور "ونشتغل على نفسنا"، وهذا ما فعلته تحديدا … اشتغلت على نفسي وعلى انطوائيتي وتحديتني أنا قبل أي إنسان آخر حتى حققت قدر من النجاح الذي أوصاني به أبي، خاصة حين كان يعبر لي عن فرحته بقراءة اسمه على أغلفة الكتب وغيره، وقد ذكرت كيف أثر التنمر على حياتي في كتابي "أصحاب القبعات الأرجوانية."
وأنا كذلك لدي موسيقاي الخاصة بي ولكني لا أضع سماعات مثل نديم … تتردد في أذني فأكتب الشعر أحيانا وأحيان أخرى أهذي بسطور مبعثرة أو أرقص على إيقاعها في أذني … أخبرتني أمي أنني كنت أستيقظ من نومي في منتصف الليل أتحدث مع الحائط المجاور لي أحاديث مهمة ومطولة قد تمتد لساعات دون ملل… خيال طفلة كبرت وأصبحت مثل نديم تفتح عينيها في الصباح ليدور في رأسها عالم بأسره… ولكنها تختلف عنه في عشوائيتها البالغة لأنه شديد الدقة والنظام. فتاة لا زالت تصدق كل ما يقال لها كما هو في بداية الأمر، قبل أن تتذكر أن الناس يكذبون كثيرا كذبات مجانية فتبدأ في إعادة تدويره في عقلها لتحري صدقه. فتاة تعلمت أن الناس على الأغلب لا يفون بوعودهم مثلما تفي بوعودها مهما حدث، وإن كان ذلك قد أفادني للغاية في عملي الحر عند التعامل مع الشركات المالتي ناشيونال حين التزمت معهم بدقة العمل ودقة مواعيد التسليم.
ولكني لازلت أذكر كيف تعاملت مع فكرة الوفاء بالوعود بسذاجة في بعض الأحيان كذلك، فحين كنت في الخامسة والعشرين من عمري ولازلت لا أمتلك سيارة واستقل باص العمل الذي كان يقطع بي مسافة ساعتين للوصول، طلبت مني صديقة في العمل أن أشتري لها علبة شوكولاته limited edition تباع في سوبر ماركت جواري صنعت تناسب عيد الحب لتهديها لزوجها، وعدتها أن أحضر لها معي واحدة في الغد ولم أتقاضى حتى ثمنها حينها، اشتريتها ونسيتها في اليوم التالي وأنا أسرع للحاق بالباص … وتذكرتها حين وصلت إلى العمل عند مدخل باب القرية الذكية وحينها ودون تردد طلبت من السائق التوقف وسط دهشة الزملاء الذين لم أفسر لهم سبب تركي المبكر للحافلة قبل أن تصلني حيث أعمل في مبنى بنهاية القرية الذكية … عدت أدراجي مستقلة مواصلات لمدة ساعتين أحضرت الشكولاته ثم ركبت تاكسي كلفني ربع راتبي حينها لمدة ساعتين إضافيتين … لأعود إلى العمل بعد موعده الرسمي بأربع ساعات حاملة الشكولاتة التي وعدتها بها بعد أن تم تسجيلي غياب عن العمل وبعد أن ظنت مديرتي أنني قد ذهبت للتقديم في مكان آخر، وحين عدت لم يصدقوا أنني قد فعلت كل ذلك للوفاء بوعدي الذي كان يمكن أن ينتظر لليوم التالي.
مثل نديم رزقني الله أيضا "بعم جميل" الخاص بي وإن كان لا يحمل ملائكية شخصية عم جميل على الورق ولكن جماله في أنه إنسان حقيقي بمتناقضاته وإنسان صادق ورائع يمتلك من مهارات الذكاء الاجتماعي ما مكنه من التعامل مع شرور البشر بنجاح مبهر … قام بتوجيهي كثيرا وإرشادي في كثير من الأمور وفي خطوات حياتي وقراراتي في العمل رغم أن أول صدام بيننا قال لي نصا "هو انتي ازاي بتصدقي كل حاجة كده يا بنت العبيطة!" ولكنه بعدما فهم "الخلطة" قال لي لم أصادف مثل "كل هذا الذكاء وكل تلك السذاجة ونظافة القلب وشيطنة الدماغ في شخص واحد". هو صديقي المفضل الذي يكبرني بفارق سنوات كثيرة لم نشعر بها، والذي حين سألني طبيبي بمن تثقي وجدتني أذكر اسمه دون تردد. علمني ونور عقلي بكثير وكثير من الخبرات وسوف يظل "صاحب الأفضال."
نرشح لك: بالأرقام.. إنستجرام المنصة الأكثر تفضيلا حول العالم
لمستني تلك الدراما ولمست الكثيرين مثلي في دقة وصفها لمعاناة ذلك الشاب الصادق الواضح الذي لا يجيد التعامل مع مراوغات البشر، وإن كنت لا أدري إن كان في مقدور الورق وصف معاناة من هم مثلنا وليسوا مصابين بالتوحد فقرروا، لاختلافهم، أن يدخلوا جنة الانطواء منسحبين من معارك لا تشبههم ومساحات رمادية لا ينتمون إليها وأن يركزوا مثل نديم على تطوير أنفسهم ونجاحهم فقط… أو ربما نحن مثله مصابون بالتوحد ولكن دون أن ندري.