منذ المشهد الأول في رواية "جنازة السيدة البيضاء" للكاتب عادل عصمت، والصادرة عن الكتب خان، تطل علينا نعمة الأبيض باختفاء تأثرها بصوت سيارة زوجها، بعد ذلك تضفي الشمس على روحها شيئًا من الحياة، فيما ابنتها منار، تعي أن غياب صوت اليمامة في شقتها في القاهرة التي تطل عليها من النافذة غياب علاقتها بالمكان، وغربة تطوق حياتها. هنا يغدو ارتباط شخوص الرواية بالحواس رابضة بينهم وبحسهم تجاه سردية عادل عصمت، كأنهم وبدون مباشرةً يبثون حواسهم في ثنايا النص تجاه القارئ، حتى لا يتحسس اللغة كوعاءً خاوي.
فيبدو المنجز الذي قطعه عادل عصمت في روايته، وعلى وجه الخصوص في عالمه الخاص في الريف، الذي يعلن بوضوح أنه لا يتمسح بكتابة من سبقوه، وأن مدرسته التي أسسها لا تملك صوتها الخاص فقط، لكنها تملك الضوء والخضرة والرائحة. فالمتن المشيد يختلف عن سابقه، وفي كل عمل تحضر حيلة واضحة في أن تتفرد عن سابقتها، فأصبحت الحكاية أكثر من مجرد وصف إيقاعي للغة، لكنها تحضر بخصوصية ما تمنحه الحاسة تجاه صياغة مناخها، في كل شخصية، كأن الراوي العليم قد ضاع صوته بين أصواتهم دون مساس بالبنية، ودون خلل، فيما تمنح اللغة من شاعرية، كقصيدة تنفتح على صراع محموم مع الذات.
فلا تدشن الرواية كإيقاع سردية مدفوعة بشيء غامض، رغم أنها سردية قد تبدو كلاسيكية إلا أنها ما تزال تكشف عن جوهر يضفي شيئًا من الفراده، فمنذ المشهد الأول يتبدد عن شعور نعمة باختفاء تأثرها بالصوت تبدد حياتها رويدًا، وأن لحظة احتضارها على عتبه النص هو بداية مدفوعة إلي الوراء. في وطأة من عذابات الأمومة هي اللحظة التي تشهد فيها السردية بدايتها عن حكاية عائلة الأبيض كنيه نعمة وهوية من الزمن البائد وراء تجاعيد ما خلفته عزاءاتها، لا تثبت أمام جسدها أي قوة تطغى على أفق رؤاها كأم لأبنائها ترى الهشاشة التي أصابتها بذنب الأمومة، عن نكبة احتلت حياتها للأبد.
نعمة الأبيض ليست نعمة زوجة عبد الله الأبيض الذي تحرر من نسل آل راضي، وأسس عائلته وتزوج من نعمة من عائلة آل السعدني، لكنها نسل يعكس مفارقة احتضار نعمة الأبيض التي يتوال تواجدها في سلالة العائلة "لا يخلو زمن لا توجد بنت اسمها نعمة" في حين أن نعمة الأبيض هي من تنازلت عن مقامها لتتزوج العقيد عثمان الفقي زوجها ومن سلب حياتها، هنا تغدو نكسة في عائلة الأبيض كسياق يخضع قهرًا إلي التاريخ، تاريخ محكية وقعت في السابق كأن قوة فردًا من العائلة وشخصيتها تمنحها من انتصار الأسلاف، وكأن عدم انتصارها على سلطة زوجها عثمان الفقي، أرثى نكبة في تاريخ العائلة.
غدت ذات نعمة بخفة ترتحل بين النص مع ذوات أبنائها، فأحلامهم هي أحلامها وغربتهم هي غربتها – في حين صاروا يباعدوا بينها وبينهم في المسافة – كبرت الهوة التي ابتلعتها داخلها لتنبش القاع، كل ذلك لم يكن ليدرك السردية إلا في أرض خصبة كقلب حمدي بدران من رفضه قلب نعمة، فتبقى ذوات الشخوص تتداخل داخل أغصان حكايته، على هامش تاريخ العائلة منذ أن زارتها الحملة الفرنسية حتى ثورة يناير، يقضي فيه التاريخ وتره من الرثاء والنكبة، هي نكبة الذوات ونكبة الأرض حين تفارق أصحابها، ونكبة القلب حين يغادر مكانه، هذا حس عادل عصمت تجاه شخوصه ليراهم ذروة نضجه في الكتابة وإخلاصا لقالبه الذي بعد أن سعى إليه؛ ليصير طينة طيعة بين يديه.
هنا وكضلع مؤسس لسرديته، يقطع بتجاه خطى للأحداث، حكاية مدينته المتخيلة، وخريطة رسمها بذاته، كحكاية تخصه وحده، هي "نخطاي" كوثيقة توضع داخل دورق حكاياته، كأن الريف من وجه نظر "عصمت" ليس ذلك العالم المنغلق على نفسه، لا يملك أسئلة المدينة أو غير قادر على خلق سياقاتها، وليس ذلك البعد الهامشي في تناول القرية في الأدب من منظور العادات والتقاليد، ولكن كبرهان على أن ما كتب سابقًا هو هامشًا لذات القرى، ترى فيها السطح ولا تتورط في أن تكون صوتًا فرديًا، وأيضًا كمساهم في القضايا الكبرى؛ لا يتوغل في الثنائيات باعتبارها بعدًا مطلقًا على الحافة ولا يعي الصراعات، لكنه يفهم جيدًا أن قضية الأرض لا تسيء إليه إساءة بالغة.
إن خصوصية عادل عصمت لا تقتصر على أداة بعينها، لكنها تشمل كل ما تدركه الحواس تجاه المعاني الدفينة، فهو لا يكتب سطرًا من حياة مبهمة، لكنه يدرك جيدًا أبعادها، يرسم جغرافيتها كأنه يملك الماء والطين والطمي، ليفسح مكانًا لنهر هو أسوة لمدينة لن يزكيها بذاكرة مضطربة أو حتى يختزلها في منطق واحد، ولكن ليفسح مجالًا آخر لها بأعماله، لأن القارئ لن يبلغها إلا في نصوصه، كأن جميع قراه ومدنه حقيقة حتى وإن نسبها هو شخصيًا إلى المخيلة.
فسرديته لا تنفتح في إطار ينسب للمدينة الكبرى، فحين يكتب عن بطل هو دخيل بلدته، يبدو وصفه مغتربًا، كأن الموسيقى التي تضمنها اللغة قد خلطت بين المقامات، هو الذي يعرف جيدًا كيف ينزع قصة الحب من رجل عجوز قد نحتتها الأرض بفأسها بين تجاعيده، تتسلل اللغة بين صخرة متصدعة وقفت حاجزًا بينه وبين القلب، وأن يجعل المفردات المتجمدة فيها سائلة بين يدية، فكل أبطاله يتحايلون على الزمن كلما تلاقت نظراتهم لتظهر على شخوصهم الجامدة، تبقى الرائحة التي تعبر كل تلك المشقات قادرة على أن تصيغها اللغة على الورق.
كأنه لم يخرج من قوقعته ليرى العالم، لكنه استطاع أن يجعل العالم يراه، يعرف حكاياته، ويتبناها بدورقه، هو يملك أرضًا حره وطنًا للكتابة، وفي نفس الوقت احتفاءً بها. كأن تجعل الكتابة محض مكان ينتظر وافدًا يحبو إلى أفكارها ومعانيها، ويدرك بذورها جيدًا ويعرف سقايتها.