رأيْنا أنّ حوّاء ليست بالضرورة في حالة "ضدّيّة" صريحة ومستمرة تجاه آدم قدْرَ ما هي في حالة "ريبة" شبه مستمرة إزاءه، ومبعث الريبة تحديداً إمكانية قيامه بما لا يسرّها أو يرضيها من الأفعال (الأفاعيل؟). ورأينا كذلك أن مردّ تلك الإمكانية "الآدمية" في نظر حوّاء يتجسّد في الامتيازات الفطرية البيولوجية/الفسيولوجية – وأحياناً النفسية/السلوكية - التي يتمتّع بها الرجل، وأبرزها القوّة الجسدية والقدرة على الإنجاب مهما يتقدّم به العمر، فضلاً عمّا يمنحه له المجتمع من أفضليات تبعاً لذلك، وإن تكن تلك الأفضليات متفاوتة تفاوتات ليست طفيفة على كل حال بحسب مكان كل مجتمع وزمانه.
وإذا كنّا قد رأينا كذلك أن "الصلة الأكثر احتقاناً بالمواقف الدرامية المتأجّجة على مدار تاريخ العلاقة بين الجنسين هي تلك التي تربط المرأة بالرجل بوصفه قريناً (حبيباً أو خطيباً أو زوجاً)"، فإن الصلات التي تضع حواء في أشدّ حالاتها تصالحاً مع آدم هي تلك التي تربطها بالرجل عبر المسمّيات الأخرى كالأبوّة والأخوّة والبنوّة وربما حتى الزمالة؛ ومن المهم الانتباه هنا إلى أنّ احتقان علاقة حواء بقرينها آدم بالمواقف الدرامية المتأججة لا يعني بالضرورة أنها العلاقة الأوهى أو الأسوأ، بل على العكس قد تكون تلك العلاقة الأقوى وربما – في غير قليل من الأحيان – العلاقة التي يسعى الطرفان فيها تلقائياً إلى شدّة التصاق أحدهما بالآخر إمّا بدافع الولع والشغف وإمّا بدافع المصلحة أو حتى التلذّذ بالمكايدة والانتقام (على تفاوت الدرجات في براءة دوافع المكايدة والانتقام).
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: حواء ضد آدم.. الفصل الحادي عشر من كتاب "جينات أنثويّة"
في كتابها Why Men Never Remember and Women Never Forget، الصادر في ترجمته العربية عن مكتبة جرير بالرياض سنة 2007 بعنوان "لماذا لا يتذكّر الرجال ويستحيل أن تنسى النساء"، تقول ماريان جي ليجاتو Marianne J. Legato (مؤلفة الكتاب بالاشتراك مع لورا تَكَر Laura Tucker) في الفصل الثالث من الكتاب تحت العنوان الفرعي "ما الذي يحدث حين نتجادل؟"، تقول: "وإنه لأمر صعب – بالنسبة للنساء خاصة – أن يتوقفن عن المجادلة، حتى وإن كان الموضوع الذي أوجد النزاع قد تمّ حلّه. من خلال خبرتي، أجد أن بعض الأشياء الأكثر ضرراً التي نقولها ونفعلها تحدث عقب المشاحنات. حين تشعر بالغضب المفرط يتمّ إفراز عدد من الهرمونات في مجرى الدم بواسطة المخ. إن أحد الاختلافات بين النساء والرجال يكمن في أن هذه المستويات تعود إلى طبيعتها ببطء أكبر بكثير في النساء. هل انتهيتِ قط من إحدى المشاحنات لتدركي أنك تنظرين حولك بحثاً عن شيء آخر لتغضبي منه؟ كل شيء قد تمّ حلّه لكنك لا تزالين تشعرين بالغضب، لذا تستمرين ثائرة في البحث عن شيء آخر لإذكاء نار المعركة. إذا كان زوجك يبدو حائراً فإن ذلك يرجع إلى تلك الهرمونات التي لا زالت تتأجج في نظامك الحيوي، بينما تكون هرموناته قد عادت إلى حالتها الطبيعية منذ فترة طويلة".
كتاب الدكتورة ليجاتو القيّم ينقِّب في الاختلافات بين المرأة والرجل (من الناحية الفسيولوجية ابتداءً) ولا يبحث في امتيازات الرجل التي أشرنا إليها بدايةَ هذا المقال إحالةً إلى المقال الذي سبقه؛ الكتاب رحلة ذات طابع علمي مبسّط وممتع حول ما يجعل حواء وآدم لا يريان الأمور بشكل متماثل أو حتى متقارب، وعليه فإن الكتاب يصلح مرجعاً بالغ الثراء لمقالنا السابق عن "حواء ضد آدم" أكثر مما يمكن أن يفيد باقتطافات مباشرة على صعيدنا هذا إلّا ما كان في سياق النصائح التي تسوقها المؤلفة لمواجهة/معالجة تبعات الاختلافات المحتشدة بين التكوينين الفسيولوجيَّين للمرأة والرجل وما يتبع ذلك من دوافع سلوكية شديدة الاختلاف بدورها.
على كلٍّ، وبصرف البصر عن النصائح الذهبية تحت عنوان "قوانين ليجاتو لتحسين التواصل بين الجنسين" في الفصل الخامس من الكتاب، وبالنفاذ مباشرة إلى جوهر عنوان مقالنا هذا، تكون حوّاء مع آدم عندما ترضى عنه، وتبلغ هذه "المعيّة" ذروتها عندما يحقّق آدم إنجازاً رفيعاً فتتجاوز مشاعرُها تجاهه منزلة الرضا لتدرك حدوداً سامية للإعجاب والانبهار.
قد تكون حوّاء مع آدم عندما تجده في موقف ضعف لا حول له فيه ولا قوة فتبدي تعاطفها معه، لكنها "معيّة" لا نقول مؤقتة بقدر ما هي أدنى منزلة من "معيّتها" وهي منجذبة إليه ومنبهرة به لهذا السبب أو ذاك على اختلاف المقامات. كذلك، فإن "معيّة" حواء تجاه آدم وهو ضعيف أو مضطهد لا بدّ أن تسبقها شروط صارمة، منها على سبيل المثال أن يكون آدم قد قدّم لها الكثير من الخير وأبرز لمصلحتها العديد من مظاهر القوّة قبل أن يخضع لضعفه/اضطهاده، وأن يكون الضعف/الاضطهاد الذي يتعرّض له نابعاً من قوة "قاهرة" وليس من جانب ندّ مكافئ أو آخر يتفوّق عليه قليلاً تمكن مجابهته ببعض الإرادة/العزم/المثابرة. تلك الشروط أشدّ وضوحاً وصرامةً مع آدم القرين وليس الأب أو الأخ أو الابن، فـ"معيّة" حواء في الحالات الأخيرة تجاه آدم تكاد تكون "شيكاً على بياض" أو على الأقل بأدنى ما يمكن من الشروط المتعلّقة بتقديم الخير وإبراز مظاهر القوة مسبّقاً ممّا يخوّل لحواء (الابنة أو الأخت أو الأم) الاندفاع بقدر أكبر من الحماس لتقديم مساندة كانت ستكون متاحة بشكل أو آخر وبوضوح في كل الأحوال.
على وجه العموم، هل يمكن القول بأن الصفة الغالبة على حواء تجاه آدم القرين هي "الضدّيّة" ("ضدية" الريبة لا الاختلاف/النزاع بالضرورة) مقابل "المعيّة" تجاه آدم الأب/الأخ/الابن؟
مهما تتباين المواقف من الإجابة على السؤال (الشرك؟) أعلاه، فإنّ خصوصية علاقة حواء بآدم القرين (الحبيب/الخطيب/الزوج)، تلك الخصوصية المتمثلة في أحد أشدّ أشكال الشراكات الإنسانية امتزاجاً وتعقيداً، هي ما يجعل "ضدّيّة" الارتياب (أو حتى الاختلاف/النزاع) التي تَسِم تلك العلاقة مسألة غير مستنكرة، وربما طبيعية إلى حدّ بعيد.