منتصف التسعينيات الماضية شهدت العاصمة المصرية أول حفل للفنان العراقي الصاعد حينها بقوة عابراً سماوات البلدان العربية ونازلاً على قلوب أهلها حبّاً وكرامةً وإعجاباً منقطع النظير. الفريد في ذلك الإعجاب أنه توجّه نحو نجم عراقي يغنّي أساساً باللهجة العراقية، في حين كانت السوح الغنائية العربية حينها – ولا تزال – تخضع تقريباً لسيادة اللهجتين المصرية واللبنانية بأداء مغنّين ومغنّيات من مصر ولبنان وسوريا والمغرب العربي في الغالب الأعمّ من الحالات.
تحت إلحاح من قريبٍ عزيز اطّلعَ على إبداع المطرب العراقي عن كثب في بغداد والموصل حينها، وعلى غير عادتي مع المناسبات المماثلة لأيٍّ من المغنّين، توجهت إلى القاهرة شِبْهَ مرغم إرضاءً للعزيز الحبيب؛ وبعد معاناة حصلنا على تذكرتين باهظتَي الثمن من تذاكر "اللحظات الأخيرة" يعرضها للبيع أفراد متناثرون – متمرّسون على ما يبدو في هذا النوع من التجارة – خارج المبنى الذي يضمّ قاعة الحفل المهيب. كانت غرابة التجربة مضاعفة وهي تبدو أشبه بمغامرة من طراز فريد بالنسبة لي أنا المعتاد على الانضباط في كل شيء تقريباً، وليس أهونَ مظاهر انضباطي موعدُ نومي الذي يسبق موعد انطلاق الحفل الساهر بنحو ساعتين أو ساعة على أقلّ تقدير.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: محمد منير.. تحدي الخصوصية النوبية
لم يكن ذاك أول استماع لي إلى كاظم الساهر مطلقاً، فقد استمعت إليه مراراً عبر التلفزيون واستمتعت بالعديد من أغنياته، وكان هذا في الواقع ممّا شجّعني على خوض مغامرة السفر إلى الحفل من المنصورة إلى القاهرة، بموازاة إرضاء قريبي العزيز كدافع أساس للتفكير أصلاً في المغامرة.
لم يخيّب كاظم في أولى إطلالاته عبر العاصمة العربية العملاقة آمال الجماهير الحاشدة؛ بدا واثقاً فأطرب الحضور بأغنياته التي بدا أن كثيراً ممن حضر يعرفها بل يحفظها عن ظهر قلبه؛ وكان من الطبيعي أن يحيّي الساهرُ الجماهيرَ بأغنية مصرية فاختار أغنية "طربية" بامتياز لمحمد عبد الوهاب، لعله أراد أن يستعرض من خلالها مهاراته في الصوت والأداء ويؤكّد انحيازه إلى الفن العريق حتى إذا كان أداؤه يميل إلى الحداثة والسرعة ولكن بما لا يخلو مما يبعث على تشنيف آذان عشاق الطرب الأصيل.
استمرّ تألّق النجم العراقي بعدها على نحو رصين بما يبشّر بحضور راسخ في الوجدان الفنّي العربي على توالي الأجيال؛ وعندما تجاذبتُ - حوالي منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة - الحديثَ مع صديق أردني حول كاظم الساهر توقّعت أن يغرقني ذلك الصديق العزيز بسيل من الثناء على النجم العراقي، غير أنه تحفّظ بوضوح، ثم زاد فأوضح بأنه لا يقلّل من قيمة الساهر الفنيّة ولكنه لا يراه يرقى إلى قامة سعدون جابر؛ وعندما سألته لماذا سعدون جابر تحديداً أجابني لسببين، الأول أنه يرى سعدون جابر أرفع قيمة من الناحية الفنية الصرفة بصفة عامة، والثاني – وهو الأهم في صعيدنا هذا – أنه يرى أن سعدون يمثّل الأغنية العراقية الصميمة في حين أن الساهر يُلبس أغانيه من الثياب ما ليس عراقياً خالصاً. تلك خلاصة رأي صديقي الأردني العزيز تقريباً.
أمّا القيمة الفنية الخالصة لأيٍّ من المغنّيَين فلا تعليق لي عليها في هذا المقام، فالحديث كثير التفاصيل وشديد التفرّع على هذا الصعيد؛ وأمّا "الغناء بروح عراقية ليست خالصة" فهو ما سأتلقّفه من كلام صديقي بوصفه شاهداً لصالح كاظم الساهر لا عليه.
الأرجح أن الساهر اخترق سماوات الأغاني العربية وتربّع على أفئدة جماهيرها لأنه لم يغنِّ بروح عراقية صرفة، سواء فعل ذلك عفواً أم متعمّداً. قلنا بداية المقال إن سوح الغناء عربياً كانت ولا تزال متسيَّدة من قبل اللهجتين المصرية واللبنانية، إضافة إلى العربية الفصحى، وذلك بما يجعل المطربين والمطربات من غير مصر ولبنان يُقْدِمون على الغناء بهاتين اللهجتين تطلّعاً إلى الانتشار عبر العالم العربي؛ ذلك بموازاة الغناء بالعربية الفصحى، ودون إغفال خصوصية الغناء باللهجة/اللهجات السورية لعمالقة الطرب السوري، وبتذكّر خصوصية الغناء ببعض اللهجات الخليجية لاتّساع التأثير الخليجي عربياً ولكن ليس بما يمتدّ إلى مستوى التأثير المصري واللبناني تحديداً في عوالم الأغنية العربية.
كاظم الساهر لم يتّخذ اللسانين المصري واللبناني جوازاً للمرور إلى الجماهير العربية، وإنما غنّى أساساً كما نوّهنا أول المقال - إلى جانب اللغة العربية الفصحى - باللهجة العراقية، فكان قالبه الطربي والحال كتلك قالباً عراقياً على صعيد اللهجات. أمّا الروح، فمن الفطنة موافقة صديقي الأردني العزيز في أنها لم تكن عراقية خالصة كما هو الحال مع سعدون جابر على سبيل المثال الذي تشبّث به الصديق العزيز.
ليس ثمة مقياس صارم يعين على تحديد "روح" الغناء بطبيعة الحال، والروح بصفة عامة أحد أشهر الأسرار التي تفجّر محاولاتُ كشفها المزيدَ من الأسئلة أكثر مما تفصح عن إجابات شافية في الغالب. لكن للتبسيط، يمكن القول بأن المراد بروح الغناء المنسوبة إلى بلد بعينه هو أن يتقمّص الإبداعُ المُغنّى التاريخَ الموسيقي والغنائي لذلك البلد ويستدعي تفاصيل حياة الناس فيه بأشد خصوصياتها إلى خاطر ووجدان المستمعين؛ ذلك بالإضافة إلى طريقة أداء اللهجة بحيث تصبح خالصة في الدلالة على هوية البلد في هذه المنطقة أو تلك وليست مخفّفة بانتقاء الأقل حدّة من الألفاظ المترادفة أو ملطّفة الجرْس عموماً عند الأداء.
كاظم الساهر صاغ إبداعه الغنائي كلماتٍ وألحاناً وأداءً في قالب عراقي هو على الأرجح أيسر القوالب العراقية نفاذاً إلى وجدان الجماهير العربية؛ قالب رُوعِيَ في إبداعه - هو ذاته ابتداءً – أن يبدو أقرب ما يمكن إلى ما يروق الذائقة الغنائية العربية السائدة ليتيسر للإبداع الغنائي الذي يضمّه ذلك القالب النفاذ بدوره إلى الوجدان العربي سلساً مستعذباً لا تعرقله خصوصية من أيّ قبيل لتراث محلي، حتى إذا كان ذلك التراث بالغ الثراء وباعثاً على حفاوة عميقة ومستحقة لدى أولئك الذين يستسيغونه خالصاً من أبنائه وبعض جيرانهم اللصقاء.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])