يوسف الشريف
دائمًا ما يبحث الكاتب الروائي في عصرنا الراهن عن اسلوبًا جديدًا، أسلوبًا لا يكون مملًا بالنسبة لقارئ هذا العصر، الذي ربما يشعر بالضيق حين يقع أمامه منشور على "فيسبوك" أكثر من عشر سطور. لهذا السبب، ولأسباب أخرى يطلع الكاتب على مختلف السرديات، ويقرأ بعض الدراسات والأبحاث التي ترصد تحولات الرواية وفن القص والبناء الدرامي وغيره. ولكن في هذه الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها لجأت الكاتبة لأسلوب وفن قديم، وأعادت تقديمه وبناءه وتركيبه بلغة العصر، وكأنها خلقت من روايتها هجين بين أشياء قد نظن إنها متناقضة.
والرواية هي "مقامات الغضب" للدكتورة صفاء النجار، الصادرة عن "الدار المصرية اللبنانية"، والتي عادت فيها كاتبتها لنوع من الكتابة الأدبية ربما نسيناه اليوم، أو ربما قد لا يسمع عنه البعض من الأساس وهو فن المقامة. والمقامة هو نوع أدبي يعتمد على الحكي والقص في أقل عدد ممكن من السطور، حيث تكون المقامة خاطفة، منصبة على موضوع أو حدث بعينه، أو قصة موجزة، وهذا ما يطالعنا داخل الرواية، من عتبة النص - "مقامات الغضب" – مرورًا بالمتن ففي أحداث وصفحات الرواية، نشاهد المقامات المختلفة التي تعود بنا أيضًا للمقامة الأم، أو السؤال الجوهري داخل السردية وهو سؤال الغضب، حيث أن كل مقامة بشكل أو بآخر تفضي للغضب.. مقام المغامرة، مقام الحيرة، مقام الترقب، مقام الترحال.
وبما أن كل قسم أو مقام في الرواية يأتي خاطفًا، محملًا بأسئلته الخاصة، وأيضًا بلغته الموجزة في أغلب الأحيان. تقدم أيضًا صفاء النجار شخوصها من المنطلق نفسه، حيث يبدو كل شخص وكأنه جاء ليقدم علامة استفهام مختلفة، لا يطرح فقط السؤال ولكنه يحاول البحث عن إجابة له، كأن الإنسان داخل المتن مجرد صوت لقضية أكبر، فأروى طرح لسؤال الشباب وأزماته وتشتته وربما اضطرابه.. وسلوى تأتي محملة بهموم الأمومة وما تعانيه المرأة حتى لو بدت غير ذلك، والضابط يقدم سؤال السلطة، وهكذا، كل سؤال يقود إلى سؤال أكبر، وكل مقام يفضي إلى مقام آخر، ليعودوا بنا إلى حيث النقطة التي انطلقنا منها وهي مقام الغضب نفسه.
وحين تطرح الرواية سؤال الثورة منطلقة من الحدث الأهم في السنوات الأخيرة والذي ترتب عليه أشياء كثير وهو ثورة يناير 2011، نرى أن الكاتبة تحاول تأمل هذه الثورة بعد مرور هذه السنوات التي تجاوزت العشر كأنها تضعها في الميزان، لتطرح أيضًا أسئلة تحلل الواقع الاجتماعي بمنتهى الدقة بعد كل هذه الحوادث التي لحقت بتلك الفترة. وعلى لسان أحد الشخصيات نرى أن التغيير الحقيقي يأتي من تغيير المعتقدات، والسلوكيات الخاطئة، وأن وضع رؤية شاملة يحتاج لأن ينتهجها الجميع من الطفل في الشارع وحتى الأم في البيت وصولًا لأصحاب المناصب.
من الصفحات الأولى نشعر أن تلك الأحداث أفرزت حالة من التيه، وتحت وطأة السيولة الرقمية حيث انتشار وسائل التواصل وغيره، نشعر داخل الرواية كأن هذه الوسائل تكاد أن تبتلع الإنسان، إن لم تبتلعه بالفعل:
"مثل كثيرين أفعل كل يوم أشياء عديدة، لكني في الحقيقة لا أفعل شيئًا.. أبدد طاقتي في كل الأفعال؛ أصحو، أذهب للعمل، أحب، أكره، لكن لا أثر، لا نتيجة".
فهنا شخصية من شخصيات الرواية تمارس ما يمارسه كل إنسان من سلوك أو حركة أو ممارسة، ولكنها لا تشعر بنتيجة كل هذا السعي في الدنيا، حالة كاملة من التيه، نعرف جزء من سببها في جزء آخر من صفحات الرواية:
" لا يعرف أبي معنى اسمي، فهو يختار الأشياء اعتباطا، لا يعرف عالم المعاني أو الدلالات، لكني أعرف، المعرفة الآن متاحة إلى حد التخمة، ضغطة على الموبايل تقدم لك معرفة العالم، ضغطة تختزل كل الجهود وتقدمها لك كي تتباهى أكثر وأكثر".
نتوقف كثيرًا أمام جملة "المعرفة الآن متاحة حد التخمة"، إنها جملة شديدة الأهمية لأنها تحلل الوضع الراهن الذي يتلقى فيه الإنسان يوميًا آلاف الأخبار، والمعلومات، التي يمكن أن يكون بعضها غير صحيح، أو كاذب، أو مزيف، والتي يتعامل معها البعض كحقائق:
"الفضاء يكاد ينفجر من الكلام، فيس بوك المقهى العالمي الكبير، يتحول الصراخ إلى غضب دائم مكتوم".
فتحت وطأة السرعة.. السرعة التي تجعل الإنسان يشعر وكأنه في مغامرة تلقيه في يد الحيرة المفضية لمواصلة الترحال والاغتراب عن هذا العالم، هذه هي العناوين التي وضعتها الكاتبة لمطلع كل قسم، وكل مقام، وكل المقامات التي لا تفضي إلا للغضب.. الذي عرفته الكاتبة أيضًا بعدما طرحت سؤاله قائلة:
"ما الذي يقضي على الغضب؟ يفرغه من طاقته، يحوله لشيء أبله بلا معنى؟ لا شيء يعادي الغضب كالملل والتكرار، الغضب دائما طازج، في كل مرة تفور الدماء، تتسع الشرايين وتعمل مضخات القلب بأقصى قوتها وتدفعك الهرمونات لحافة الهاوية، ويتحول العالم ".
أو نقرأ في جزء آخر:
"ما يعيب هذه المعارف أنها لا تقدم بنية دافعة للتفكير والتأمل، هذه معارف مغلقة لا تساعد على النقاش أو طرح الأسئلة، كما أنها تعطي من يحفظها إحساسًا وهميًا بالقيمة والامتلاء".
هنا يتم تعميم سؤال المعرفة، وتقدم الكاتبة مفهومًا جديدًا للمعرفة، وكأن كل معرفة لا تقدم علامة استفهام، أو تساؤل هي معرفة لا يعول عليها.
وبالتالي تصبح المعرفة – أيًا كان نوعها - ليست كالجوهرة داخل صاحبها حيث ينفع بها الناس والمجتمع، بل تصبح أداة للاستعلاء، والتباهي، حيث نرى داخل الرواية هذه الشخصية التي لا تحلل من خلال الكاتبة فقط التكوين النفسي لشخصية رجل الدين داخل المجتمع بل تؤكد على هذا التعميم:
"كطفل ومراهق، تبهرني الألغاز الفقهية، تصبح مصدرًا للتميز وللظهور أمام أقراني في الشارع".
في كل الأحوال نحن أمام رواية قوية، جريئة سواء في بنيتها الأدبية المختلفة، أو في طرحها لمواضيع تحاول الاقتراب من الأسئلة التي تواجه مجتمعنا والتي يخشى البعض الاقتراب منها، سياسيًا واجتماعيًا، وتقدم نظرة ورؤية مختلفة أيضًا في هذه المواضيع. حيث يمكن اعتبار أن هذه الأسرة هي المجتمع بأكمله.. وبعد الوصول للصفحة الأخيرة يصبح القارئ على يقين من أن كل ما قرأه لا يخص هؤلاء الذين يعيشون داخل هذه السردية أو هذا الوطن فقط، بل الإنسان في كل الدنيا.
نرشح لك: أحمد حداد: جدتي ألهمتني "استراتيجية القهوة".. وانتهيت من الديوان في 10 سنوات