احتفيت في أكثر من مقام بجحافل الإحساس التي يصدّرها مغرب عالمنا العربي إلى مشرقه، وإلى مصر التي تقع جغرافياً - ومعونياً إلى مدى بعيد – في وسط العالم العربي، وإن يكن مزاجها الثقافي والاجتماعي أقرب إلى أن يضعها داخل إطار المشرق العربي إذا كان لا بدّ من المفاضلة في تصنيف مصر رجوعاً إلى طرفَي العالم العربي الشقيقين.
الواضح أن احتضان مصر لمواهب الغناء المغاربية الأصيلة والفخمة كان الأبرز عربياً؛ وبرغم خصوصية الشام (لبنان وسوريا) على الصعيد الغنائي والثقافي عربياً، بالإضافة إلى الصعود الثقافي والإعلامي الخليجي اللافت في العقود الأخيرة والباهر خلال السنوات القليلة الفائتة، فإن جحافل الإحساس المغاربية لا تزال تنطلق في الغالب بلسان طربي مصري إلى أرجاء العالم العربي كافةً بما يشمل أوطانها الأم.
جاذبية مصر الحضارية طاغية، وهو ما ناقشناه باستفاضة في "جينات مصرية" حين قرأنا الخصوصية المصرية بقدر من التفصيل؛ وعليه فإن توافد المواهب المغاربية إلى مصر ليس غريباً بحال من الأحوال، وذلك بصرف البصر عن الأسباب الخاصة التي تقف من ورائه فيما يتعلّق بالحالة المغاربية في الغناء تحديداً.
سلاسة الانطلاق الإعلامي عبر مصر أحد أبرز أسباب توافد المواهب الغنائية إليها، وهو سبب عام يطال الجميع وليس حصراً على مواهب المغرب العربي فحسب؛ ومن المهم الانتباه هنا إلى أن مصر ظلت جاذبة لأرباب الثقافة والفن من كل الفئات والطبقات – لا المواهب الصاعدة وحدها – من الشام حتى عندما كان الأخير بالغ التأثير على خارطة العالم العربي الثقافية والسياسية أواخر القرن التاسع عشر حين توافدت حجافل الثقافة والإعلام والفن من الشام فلم تطلب فرص الذيوع عبر مصر فقط وإنما أسست العديد من منابر الثقافة والفن والإعلام فيها؛ فمصر بذلك كانت ولا تزال ذات جاذبية بالغة الخصوصية عربياً على هذا الصعيد.
بالعودة إلى هجرة الحناجر المغاربية الذهبية إلى المشرق المعربي (مصر على نحو أشدّ كثافة وظهوراً)، تبدو اللهجة عاملاً جوهرياً في الحض على تلك الهجرة، فاللهجات المغاربية على ثرائها وخصوصياتها المتعددة بقيتْ مفهومة في محيطها الجغرافي فحسب بحيث ظلت مغامرات المشارقة في استيعاب تلك اللهجات لا تتجاوز بضع كلمات من قبيل "بزّاف" و"بَرشا".
ولكن صعوبة/خصوصية اللهجة لا تبدو وحدها كافية لتبرير هجرة الحناجر الذهبية المغاربية نحو مصر والمشرق العربي، فالهجرات الفنية – فرادى وجماعات – كما رأينا تدفقت من المشرق العربي بصورة موازية نحو مصر، أو – بكلمات أخرى – من المشرق العربي إلى المشرق العربي نفسه، بما لا يمكن معه اعتبار اللهجة دافعاً أساساً وراء تلك الهجرات الفنية. وإن يكن تحدّي اللهجة لا يزال ماثلاً مع الحالة المغاربية بصفة خاصة بما لا يمكن تجاوزه، فمعدودة – ربما على أصابع اليد الواحدة – الأغنيات المغاربية التي اقتحمت آذان ووجدان المشارقة بكلمات مَحلّيّة صميمة.
مهما يكن من تأثير شدة خصوصية اللهجات المغاربية في الحضّ على الهجرات الفنية المشار إليها، فإن من المهم الانتباه إلى أن الأمر لا يقتصر على اللهجة وحدها عند تقييم انتشار الإبداع الفني الغنائي في أي زمان ومكان، فما وراء الكلمة من أدوات ذلك الإبداع كثير وعميق، وقد كانت تلك الأدوات جميعها في حوزة المغاربة على نحو واضح الاكتمال، ولا نقول "واضح الكمال" بحكم مقتضيات الفن التي لا تعرف النهاية كما هو الحال مع سائر مقتضيات الإبداع على كل صعيد.
من الواضح أن تقاليد الإنشاد والغناء والموسيقى تقاليد راسخة في المجتمعات والمؤسسات المغاربية على تعددها واختلافها؛ وهي ليست وليد العصر الحديث وإنما ممتدة قروناً من عمر الثقافة المغاربية الضاربة جذورُها عميقاً في الحضارة العربية العريضة باتصالٍ لم تؤثر فيه الشُّقة (الجغرافية) بحال من الأحوال. بصورة موازية، أتاح التماسُّ الحضاري مع أوروبا مزيداً من الثراء الفني والثقافي انعكس على خصوصية الإبداع المغاربي، حتى ذلك المقدّم في ثياب عربية خالصة أو شبه خالصة.
التقييم الفني الصرف للحناجر المغاربية المهاجرة يفصح عن أن الآذان المشرقية لا تخطئ قوة الأصوات التي تصدح بها تلك الحناجر ومرونتها في الوقت نفسه، بحيث لا يمثّل الشدو بأي لحن من أي مقام تحدّياً من قبيل يُذكر بالنسبة لتلك الحناجر؛ والأهم أن تلك الإمكانيات الصوتية الباهرة لا يستبد بها الغرور فيحجب عنها ضرورة أن تنغمس في الأداء روحاً لا حبالاً صوتية فحسب.
مع تلك الأصالة والفرادة الفنية، امتلكت المواهب المغاربية بصورة موازية أهم شروط التألق الفني متمثلةً في الروح التنافسية العالية التي لا تعرف الاستسلام ولا تنقصها المرونة في الوقت نفسه، فاكتملت بذلك أدوات نجاح المواهب المغاربية على صعيد اقتحام الحياة الفنية، تلك الحياة التي تؤخذ غلاباً كشأن جوانب وجودنا الأكبر كافةً.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: كاظم الساهر.. تجاوُز الخصوصية العراقية